عندما يغادرُنا الضيوف، أعضاء وفد صندوق النقد الدولي، بعد اجتماعاتهم التي تبدأ غداً، هل سنتمكن من الاطلاع على وقائع المحادثات؟ طبعاً، ممثلو الصندوق في بيروت كانوا قد أرسلوا إلى المقرّ الرئيسي في واشنطن تصوّراً لما سيطرحه لبنان، وعلى أساسه ستدور المحادثات، لكنّ الصندوق لا ينشر التقارير عن محادثاته مع أي عضو إلّا بعد موافقته. وبالتأكيد، ليس في مصلحة المسؤولين اللبنانيين، وكلاء القوى السياسية، أن تُنشر الحقائق التي سيواجههم بها الوفد، لأنها تتضمن فضائح مدوّية.
مع استعانة لبنان بالمساعدة التقنية من صندوق النقد، عادت إلى الضوء مشكلة مزمنة بين الصندوق والطاقم الذي يتولّى الإدارة السياسية والمالية والنقدية والمصرفية والاقتصادية في لبنان منذ سنوات.
فالخبراء في الصندوق غالباً ما كانوا يُجهّزون تقارير سلبية عن أداء الطاقم اللبناني. وكانت تتضمن انتقادات قاسية جداً للنهج المتّبع مالياً ونقدياً ومصرفياً، وتوجّه تحذيرات شديدة اللهجة من مغبّة وقوع لبنان تحت وطأة الأزمة، لأنّ أرقام المال والاقتصاد التي توزَّع رسمياً ليست دقيقة. لكنّ تدخلات كانت تطرأ وتمنع نشر التقارير السلبية.
بين العامين 2015 و2019، ونتيجة الزيارات التي قامت بها وفود الصندوق لبيروت، تشكّلت صورة قاتمة عن مستقبل الوضع. والخلاصات (aide-mémoires) التي دوَّنتها هذه الوفود وأرسلتها إلى المعنيين في الصندوق حملت الكثير من النقد، بل الغضب، من سلوك المعنيين في لبنان، بما في ذلك الهندسات المعتمدة.
ولكنها، في النهاية، لم تكن تنشر. بل كانت الوساطات والمساعي جاهزة دائماً للدخول على الخط وتعديلها، لتتم الاستعاضة عنها بأخرى معتدلة اللجهة، وأحياناً تميل إلى الإيجابية، باستثناء القليل منها كتقرير 22 حزيران 2018 الذي أعقب اجتماع المديرين التنفيذيين.
لقد توجّه المديرون إلى لبنان بطلب «التثبيت الفوري» لأركان سياسته المالية عن طريق «خطة ضبط» تستهدف استقرار نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، ثم وضعها على مسار نزولي واضح، بعدما باتت ثالث أكبر نسبة من نوعها في العالم. وعبّر المديرون صراحة عن «استبعادهم أي انتعاش قوي قريباً».
ومشكلة الطاقم الرسمي اللبناني تكمن في أنّ التقارير الأصلية عن سلوكه كانت تصل إلى مرجعيات وجهات رفيعة وذات شأن في العالم، قبل تعديلها ونشرها أو حجبها عن الرأي العام. وعلى أساس هذه المعطيات، تتعاطى الجهات الدولية مع لبنان والطاقم الحاكم فيه حالياً.
لذلك، يعلن مسؤولون دوليون تشكيكهم بالأرقام التي تصدرها المؤسسات اللبنانية. ومن هذا القبيل يُفهَم قول مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شنكر، قبل أيام، إنّ احتياط المصرف المركزي اللبناني من العملات الصعبة أدنى بكثير من الرقم المعلن.
وثمّة من يلفت إلى وجود الدكتور جهاد أزعور في منصب مدير الشرق الأوسط للصندوق، ويرى أنّ هذا العامل يشكّل فرصة ليكون هناك تفهّم أكبر لطبيعة الأزمات اللبنانية. ولكن، يعتقد آخرون أنّ لذلك ارتداداته السلبية ربما، إذا شاءت الظروف أن يتأثّر الرجل كثيراً بالاعتبارات الداخلية اللبنانية التي كان جزءاً منها بين 2005 و2008، عندما تولّى وزارة المال، وضمن فريق سياسي معين.
ووفق المطّلعين، يتّصف عمل خبراء الصندوق، عموماً، بالمهنية والمعايير العلمية. لكن تركيبة الوفد المنتظَر وصوله إلى لبنان وطبيعة المحادثات التي سيجريها لها أهميتها في هذا الشأن. وفي أي حال، يصعب على أيّ كان أن يقتنع بالنهج الذي اعتمده الطاقم السياسي والمالي، خصوصاً أنّ كل التقارير السلبية التي لم ينشرها الصندوق ما تزال موجودة بكامل معلوماتها واستنتاجاتها في أيدي كبار مسؤوليه.
وفي النهاية، يقول الخبراء، سيطرح الصندوق على اللبنانيين خطة لإعادة الجدولة وإعادة الهيكلة. لكن أيّ خطة لن تكون صالحة للتطبيق إلا إذا أجرت الدولة تدقيقاً في الحسابات (Audit) لضبط المالية العامة.
وهذا الأمر تتجنّب القوى السلطوية بلوغه لأنه سيودي بمعظمها إلى فضيحة بحجم الكارثة. والبعض يقول: إذا قرَّر الصندوق أن يمسك بزمام الأمور في لبنان عن كثب، من دون مسايرة ولا تدخُّل من أحد، فإنّ الكثيرين من أركان السلطة لن يعرفوا أين يمكنهم إخفاء رؤوسهم!
وفي عبارة أخرى، إذا سدَّد لبنان سندات «اليوروبوند» من دون خطة فإنه سيُقبل على الخراب، وإذا لم يسدِّد من دون خطة فإنه أيضاً سيُقبل على الخراب. فهل هناك استعداد لبناني لتبنّي أي خطة، أم سيستمرّ التهرّب لئلا ينكشف ما لا يخشى انكشافه؟
ويلاحظ بعض هؤلاء الخبراء أنّ قوى سلطوية بدأت تمهّد لزيارة وفد الصندوق بإثارة الغبار في الأجواء، بحيث توحي بأنها مع الإصلاح وأنها تزايد على الصندوق بدعمها للإصلاح ومطالب مكافحة الفساد.
وظهر ذلك مثلاً بـ»اليقظة المفاجئة» التي أصابت قوى سياسية في مسائل عدّة، من تسعيرة بطاقات السفر بالليرة، إلى إنهاء الخلل في قطاع الكهرباء، وصولاً إلى الاتصالات وسواها. فهذه القوى تريد ملء الأجواء غباراً إصلاحياً عشيّة انضمام أبطال صندوق النقد إلى المشهد.
وما دامت هذه القوى السياسية قد خرجت بالجسد من الحكومة وتركت فيها أشباحها، فلا بأس بغسل الأيدي «من دم هذا الصدّيق» والجلوس جنباً إلى جنب مع المنتفضين في الخندق، هذا الخندق الطويل العريض… والذي يقفز فيه الطالح بظهر الصالح!