Site icon IMLebanon

بثلاثين دولاراً إحصل على إجازة سوق دوليّة… من سوريا

 

مزوّرون يروّجون لأعمالهم: “المصداقيّة والإتقان بالعمل”

 

 

ثلاثون دولاراً أميركياً تكفي للحصول على إجازة سوق دولية سوريّة مزوّرة (كرتون). أما إجازات السوق الجديدة (بلاستيك، أو ما هو متعارف على تسميتها: بطاقة عظم)، عمومي، خصوصي ودراجات ناريّة، فتبدأ من 50 دولاراً أميركياً وتتفاوت بين مصدر وآخر. هذه الأسعار فقط للمقيمين في لبنان، وقد تكون أكثر ارتفاعاً في دول أخرى. أما عن الأوراق الثبوتية الرسمية الصحيحة، والتي يحصل عليها اللاجئ السوري بواسطة سمسار، فحدّث ولا حرج، إذ تصل تكلفتها إلى أكثر من ثلاثة أضعاف الرسوم الحقيقية.

سليم، هو أحد المستفيدين من هذه الخدمات الإجراميّة، حيث انتقل «بفضلها» من صفة «عامل بأجر يومي» الى «سائق خاص». وكان وصل مع ذويه الى بيروت في العام 2011، عندما كان بعمر 13 سنة، استقرّ في العاصمة لفترة محدودة ثم انتقل مع الأسرة الى إحدى قرى جبل لبنان الجنوبي، عمل خلال هذه السنوات في أماكن عديدة، بساتين، ورش بناء وغيرها. الى أن علم من أحد أصدقائه ويدعى «أبو حسين»، أن بإمكانه الحصول على إجازة سوق دولية سورية مقابل 30 دولاراً أميركياً، من دون أن تكون له أي علاقة بقيادة السيارات. «صحيح أنها مزوّرة، لكنها مطابقة تماماً للأصلية بحيث لا يمكن تفريقها»، كان ذلك في صيف العام 2020.

 

بعد حصوله عليها، تعلّم الحرفة الجديدة على سيارة أحد أصدقائه، حتى شعر بأنه امتلك تقنياتها، جدّ السعي للحصول على عمل سائق، رغم أن هذا العمل بالتحديد يتطلب الحصول على رخصة قيادة عمومية لبنانيّة بعكس العمل على سيارات الأجرة والفانات. بعد سنة من البحث وجد ضالّته. وهو يعمل حالياً سائقاً لعائلة أحد المغتربين اللبنانيين، «براتب مقبول ومكافآت جيّدة»، كما يقول.

 

ثم يعترف، بأنه لن يتأخر باللجوء الى السماسرة إن احتاج لأي وثيقة رسمية في المستقبل، لأنه لا يستطيع دخول السفارة السورية في بيروت، كونه متخلفاً عن الخدمة العسكرية. ليختم بالسبب الذي جعله يعتمد طريقة غير شرعية للحصول على إجازة السوق: «إن خلف كل شرّ تكمن الحاجة. ولا شك أن سهولة وسريّة الحصول على هذه الوثائق تشجع على ذلك. فالترويج لها، يدور عادة بين الأصدقاء المشتركين».

رغم الملاحقة، أعمال التزوير تتوسع

 

سليم، ليس اللاجئ السوري الوحيد في لبنان، الذي يعمل بالتزوير. يقول مصدر في شعبة المعلومات لـ»نداء الوطن»، إن عدد المستفيدين من الوثائق المزوّرة يقدّر بالمئات. وهم، مع المزورين، رهن المتابعة الدائمة للشعبة. آخر المهمات «الدسمة»، كما يسمّيها، كان في قلب بيروت، حيث توجهت دورية من الشعبة، بعد اتصال من أحد المخبرين السريّين يفيد بوجود سائق حافلة عمومية تابعة لإحدى الشركات اللبنانية، سوري الجنسية، بحوزته دفتر سَوق عمومي سوري مزوّر.

 

بعد توقيفه والتحقيق معه، تبين أنه يعمل مع عصابة إجراميّة في الترويج لوثائق رسمية مزوّرة، وقد كان وسيطاً لبيع عدة دفاتر قيادة.

 

وأضاف: «لا شكّ أنه لم يعترف بكل عمليات البيع، ظناً منه أنه يخفّف عن نفسه فداحة الجرم، لكننا نعمل على الحصول على أكبر قدر ممكن من الأسماء». أما عن التمييز بين البطاقات المزوّرة والرسمية، فيقول إنه «أمر صعب جداً على عناصر قوى الأمن الداخلي، فالتقنيات الحديثة في الطباعة تسمح بتقليد أدقّ التفاصيل، قلّة قلية من رجال الأمن يمكنهم تمييزها من خلال الفارق البسيط في اللون، أو اللمعيّة، أو من خلال طريقة قطعها في بعض الأحيان. لكننا نركّز أكثر على المخبرين السريين لاكتشاف شبكات التزوير».

 

تُظهر الأرقام المعلنة من مديرية السجون، على موقعها الرسمي pa.justice.gov.lb أن عدد الذين أُدخِلوا السجن فعلياً جرّاء «جرائم متعلقة بالثقة العامة (تقليد خاتم الدولة، التزوير…)»، وصل في النصف الأول من العام 2023 (حتى 30 حزيران) الى 182 مسجوناً من جنسيات مختلفة. بعدما وصل عددهم في العام 2019 الى 528 مسجوناً فعلياً، لينخفض في العام 2022 الى 344 سجيناً.

 

في العام 2023، سجن بمعدل شخص واحد كل يوم لإقدامه على تزوير مستندات وأوراق رسمية. رغم هذا العدد، ورغم المتابعة الدائمة، والعمل الدؤوب الذي تقوم به الأجهزة الأمنية اللبنانية، ما زال المزوّرون يعملون في لبنان بوقاحة واضحة، ويعلنون بكل جرأة عن أعمالهم على صفحات التواصل الاجتماعي، ثم يذيّلون إعلاناتهم بعبارات برّاقة: «المصداقيّة والإتقان بالعمل»، «شعارنا الثقة والأمان»، «بطاقات عظم أوريجينال»، «الدفع بعد أن يجهز الطلب». واضعين تحت تصرف «زبائنهم» أرقاماً تتيح التواصل عبر تطبيق واتساب فقط، رغم أنها أرقام لبنانية في الكثير من الأحيان.

 

مصدر أمني آخر يؤكد لـ»نداء الوطن» أن جميع الأرقام الهاتفية، بما فيها الدولية منها، يمكن متابعتها ومعرفة أماكنها. فالأجهزة الأمنية قادرة على تعقّب الأرقام المشبوهة فور ورود أي معلومة عن ارتباطها بأعمال إجرامية. وقد تمكنت من توقيف العديد من العصابات جراء المتابعة المتطورة. كما بإمكانها التعاون مع مثيلاتها في الدول الصديقة والشقيقة لملاحقة عصابات تهدد أمن هذه الدول، على أن يتم ذلك وفق قواعد الاتفاقيات الأمنية الثنائية التي تعقدها الحكومة اللبنانية.

 

مستندات من جميع الأنواع

 

من يدخل الى تلك الصفحات، يلاحظ تعدّد الخيارات، وتنوع الأصناف. سلعٌ تلبي حاجات الجميع، فمنها أيضاً ما هو صادر فعلياً عن دوائر رسمية سورية، لكن بطرق غير قانونيّة، كونها تفتقد الى شروط الحصول عليها.

 

حتى أن أحدهم أخذته المغالاة، فكتب مؤكداً لزبائنه: «جوازات سفر ولو طالع تهريب بيطلع». وآخر، «أبو يمان» بحسب اسمه على الصفحة، طمأن «الأخوة السوريين في لبنان وخارج لبنان» أن «الأسعار بنور الله».

 

لكن الشروط المحدّدة والمعلنة على الموقع الرسمي لوزارة الداخلية السورية moia.gov.sy، في قسم «معاملات إدارة المرور»، تؤكد عدم شرعية الشهادات المعروضة على صفحات التواصل الاجتماعي، كونها تعارض شرطين أساسيين: شرط الإقامة (تصريح إقامة على مسؤولية صاحب العلاقة). وشرط الاختبار (وثيقة حسن القيادة) التي تصدر عن مدرسة معتمدة لتعليم قيادة السيارات. وينطبق ذلك على الفئات الأخرى كالدراجات والمعدات الزراعية.

 

الى جانب شهادات القيادة من جميع الفئات، تبرز عروض الحصول على شهادات جامعية سورية لتزيد من أزمات سوق العمل اللبناني أزمة جديدة، إذ يقول الباحث الاقتصادي الاجتماعي محمد حمّود لـ»نداء الوطن» عن الشهادات المزوّرة بشكل عام، أياً كان مصدرها أو حاملها، سواء كان سورياً أو لبنانياً أو من جنسية أخرى، تؤدي الى تداعيات خطيرة وربما كارثيّة في المستقبل، خصوصاً إذا كانت متعلّقة باختصاصات توجب احترافية في التعامل، كالصحة والهندسة والمالية. كما تضرّ بحاملي الشهادات الرسمية من الجامعات ذاتها، إذ تؤدي الى الشك وانعدام الثقة بحقيقة حصولهم على شهاداتهم بجدارة.

 

في المقابل يقلّل الباحث الاجتماعي أديب نعمة، من أهمية تأثير الشهادة السورية المزورة على سوق العمل اللبناني. فبرأيه هو سوق غير منظَّم، وبالتالي لا يأخذ بعين الاعتبار حيازة طالبي الوظيفة من الرعايا السوريين على أوراق رسمية أو غير رسمية، أكثر مما يتأثر بأمور أخرى مثل الأجر أو الراتب، ودوام العمل وطبيعته.

 

أما الأمن الصحي اللبناني، فقد تلقى ضربات موجعة من تزوير الشهادات المتعلّقة بالطب. إذ علمت «نداء الوطن»، أن لاجئاً سوريّاً معروفاً باسم «الدكتور خليل»، يتحرك في قرى جبل لبنان الجنوبي، يحمل شهادة تخصص في طب الأسنان (مزوّرة) وحقيبة جلدية سوداء اللون، ويجول بهما على زبائنه في منازلهم. هنا يخلع ضرساً، وهناك يحفر آخر ليهيئه لـ»تلبيسة» مناسبة. وقد بات معروفاً بين أبناء القرى مثلما هو مشهور بين النازحين السوريين. إحدى السيدات اللبنانيات التي لجأت إليه لوضع «جسر أسنان» تقول إن أسعاره مقبولة وعمله متقن، ولا يكلّفهم عناء الطريق الى العيادة، علماً أنه لا يملك واحدة. ثم يخبرنا أحد زبائنه من التابعية السورية، وهو من أصدقائه أيضاً، أنه «أخذ المهنة عن والده، وربما والده كان قد أخذها عن جده». ثم أسرَّ لنا بأنه «لم يدخل الجامعة يوماً، لكن خبرته كافية للتعامل مع أي وضع يواجهه».

 

وللسماسرة سوق في لبنان

 

يقول ناشط حقوقي سوري مقيم في لبنان لـ»نداء الوطن» (طلب عدم ذكر اسمه)، أن بعض السوريين المقيمين في لبنان مهدّدون من النظام السوري، وهم إما ناشطون سياسيون، أو فارون من الجيش، أو مطلوبون الى الخدمة العسكرية، أولئك لا يمكنهم دخول سفارتهم في بيروت ولا العودة الى الوطن لتخليص معاملاتهم الضرورية. ومنهم من لا يقبل بالتزوير. لذلك كان لا بدّ لهم من اللجوء الى سماسرة، من أصحاب الحظوة لدى النظام، أو لدى مسؤولي الإدارات.

 

هؤلاء السماسرة، يستغلون أوضاع اللاجئين في لبنان، فيعمدون الى تقاضي ثلاثة أضعاف البدل الرسمي مقابل إصدار أي وثيقة رسمية سورية لهم. فجواز السفر، على سبيل المثال، يكلّف من 1000 الى 1500 دولار أميركي، في حين أن الرسم القانوني هو 350 دولاراً. وذلك ينطبق على كل المعاملات الأخرى.

 

أما المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR، فيقتصر دورها في هذا المجال على المساعدة في استخراج شهادات ولادة لمن تسجلوا لدى المفوضية قبل كانون الثاني 2015.

 

حتى الحلّ الأخير، ليس قانونياً

 

أملاً بتحسين وضع العائلة، وتأمين مستقبل جيد لأولاده، يكشف «أبو محمود» عن نيّته في الانتقال مع عائلته الى إحدى الدول الأوروبية بطريقة غير شرعية، كونه قد رُفض مرّتين من الهجرة الشرعية، الأولى كانت لتكون الى السويد، والثانية الى سويسرا. مُشَجَّعاً بنجاح تجربة قريب له كان يقيم في لبنان منذ أقلّ من سنة، لا يرى مانعاً من الاستحصال لولديه الأكبرين على شهادة جامعية وأخرى ثانوية مزوّرة، لكل منهما بحسب عمره.

 

ويقول إنه لم يعد أمامه من حلّ سوى ذلك، لكنه ينتظر تأمين المبالغ اللازمة، حيث تصل كافة المصاريف، بحسب قوله، الى 30 ألف دولار أميركي. «بالتوفيق» أبو محمود!