طرِحت أزمة الإنترنت والتخابر أخيراً على طاولة البحث، وسط التحقيقات الجارية لكشفِ ملابسات كلّ ما حصَل، خصوصاً في ما يتعلق بالشبكات غير الشرعية.
الجمهورية اللبنانية/ دوليات
الخدمة: مخابرات دولية /غير شرعيّة
منطقة مركز التخابر في لبنان وعنوانها: كلّ الأراضي اللبنانيّة وضواحيها
وجهة التخابر: بنغلادش، سريلانكا، الفليبين، أثيوبيا، مصر، الجزائر، سوريا…
المتّصل: مهاجر، عمّال أجانب، ولبنانيون…
عدد الدقائق/ الساعات: …
التسعيرة/ مجموع القيمة ل.ل. نقداً: …
إشتياقٌ ولهفة لسماع صوت القريب – البعيد وضائقة مادّية حَكمت على بعض اللبنانيين والعمّال الأجانب الإقدام على مناورة علنيّة لإيجاد مراكز تخابر دوليّة غير شرعيّة، عسى أن توفّر لهم بعضَ النقود لسدّ جوعهم والحدّ من أوضاعهم المتدهورة في بلدهم الأمّ. أمّا المفاجأة فهي انتشار مخالفات الاتصالات في مختلف الأراضي اللبنانية ومعظمها تحت غطاء النافذين والأرباح مضاعفة، بينما الخاسر الأبرز هو الدولة اللبنانية القابعة في فسادها المستفحل في شرايين وزاراتها، وعدوى الإصلاح لا تزال شبه منعدمة.
ففي ظلّ المخالفات المتراكمة والانتقاص من حصرية الوزارة المعنية، تبقى القوانين والمراسيم الاشتراعيّة حبراً على ورق، ومنها المرسوم 127 /عام 1959 الذي ينصّ في أولى مواده على أن «تتولّى المديرية العامة للهاتف إنشاءَ التجهيزات والشبكات الهاتفية واستثمارها وإدارتها، والقيام بكلّ الأعمال التي يتطلّبها الحصر الهاتفي»، والذي استثنى من الحصر في مادّته الرابعة «الإنشاءات والتجهيزات الهاتفية التي يقوم بها الجيش، فضلاً عن تلك المرخّص بها بموجب قانون».
وعلى الرغم من صدور القانون 431/ العام 2002 وإقراره «مبدأ تحرير قطاع الاتصالات» وإتاحة الوزارة للقطاع الخاص إمكانيّة الاستثمار في مختلف خدمات الاتصال، إلّا أنّ خدمات الهاتف الثابت والخلوي لا تزال تَدخل ضمن أحقّية وزارة الاتصالات الكفيلة باستثمار خدمة التخابر.
وليد الحاجة… التّخابر غير الشّرعي
عبّارة الحياة الهشّة فرَضت سلوكَ دربٍ محفوف بالمحظورات.. فبَعد خسارة «طوني» والدَه على أثر مرض خبيث فتكَ بصحته وأنهكَ عائلته التي وجَدت نفسها في حالة ضياع ووحدة لفَقدها معيلها وعطفَه، لجأ الشّاب الجامعيّ إلى التّواصل مع عمّه في بلاد الاغتراب عسى أن يرأف بأوضاعهم المتدهورة وينفّذ ما تضمّنته وصية أخيه.
رفضُ المساعدة وعدمُ العثور على عمل محترم كانا كفيلين بشدّ العزيمة، فـ«الحاجة هي أمّ التّخابر الدولي غير الشّرعي» والفساد ليس حكراً على رؤوس الأموال، فيما عامّة الشّعب هي أحقّ وأولى في ظلّ زوبعةِ نهبٍ وسرقة تجتاح البلاد وعلى «عينَك يا تاجر».
وبشجاعة، يقول «طوني»: «كانت البداية شراء آلة تمدّ كبلاتها إلى الحاسوب والروتر ويتمّ إيصالها بالـ«هاندي»، استحصلتُ عليها من السوق السوداء بثمن 90 دولاراً بواسطة أحد ممتِهني تزوير الأسطوانات والذي يتعامل بدوره لتسويقها وتأمين حاجاته مع أحد الأفراد من التابعية العراقيّة، ولاحقاً تعاملتُ مع تجّار مختلفين في قضاء جبيل وعمشيت لمدِّي بحساب على شبكة الإنترنت يتمّ تشريجه حسب الاستهلاك، غالبيتُهم أصحاب محلّات يتعمّدون بيعَ أجهزة الخلوي وخطوط «ألفا» و«إم. تي. سي» وتشريجها قانونياً كستارٍ لأعمالهم المشبوهة».
ويضيف: «إلّا أنّني تعمّدت البحثَ عن تجّار ينافسون في الأسعار لكسبِ أرباح مضاعفة، فتوصّلت إلى كبير التجّار في برج حمّود، وفي خانته مذكّرات توقيف وجاهية بحقّه نتيجة تعاملِه مع مؤسسات عدة، فتواصلتُ معه عبر خدمة الـ Viber، أمّا الدفع فكان قد تمَّ عبر الـ OMT إذ كان في إمكانه خلقُ حساب وبرمجتُه ووضعُ حدود للتّشريج نظراً لحيازته على معدّات وتجهيزات أدخِلت خلسةً إلى لبنان».
ولم يُخفِ «طوني» حقيقة استغنامِه تردّدات الأزمة السورية، بحيث بات ملاذاً للّاجئين السوريين الذين يبغون الاطمئنانَ على ذويهم، فكانت تسعيرة الاتصال إلى سوريا ألفَ ليرة لبنانيّة لكلّ ثلاث دقائق، ناهيك عن العمّال الأجانب، ولا سيّما منهم خَدمُ المنازل من مختلف الجنسيات: مصريّون/ الـ 8 دقائق إلى مصر بألف، بنغلادشيون/ الـ 20 دقيقة إلى بنغلادش بألف، أثيوبيون وفلبينيون/ الدقيقة بـ 500 ليرة.
ولفتَ إلى «تعمُّدِه أحياناً احتكارَ الأسعار ورفعَها والاحتيالَ بواسطة توقيت «الهاندي» لزيادة عدد الدقائق، وذلك في ظلّ غطاءٍ يوفّره بعض النافذين»، كاشفاً أنّ «عملية التخابر تتمّ وكأنّها في دولة أجنبيّة، ولا تراقبها الدولة، وتَعمل عبر أقمار اصطناعية خارجة عن نطاق شبكة الاتصالات اللبنانية وغير قابلة للتشويش أو الرصد، فضلاً عن إمكانيّة التخابر مع العدوّ الإسرائيلي».
يتطلّع «طوني» إلى «مستقبل تسوده الديمومة»، فهو تَخرّجَ اليوم من جامعته بفضلِ مردود الاتّصالات، وانحرفَ عن مسار التخابر غير الشرعي نظراً لتراجُع وتيرة أعماله بفضل وسائل التواصل الاجتماعي Viber والـ WhatsApp Call، ناهيك عن فكرةِ العقوبات والملاحقات القانونيّة من سجنٍ وغرامات ماليّة يمكن أن يتعرّض لها، واضعاً نصبَ عينيه هدفَ إيجاد وظيفة تضمن راحته.
من جبل لبنان إلى صيدا… وبعد
بعد سلسلة من الأخطاء والمجازفات في سبيل لقمة العيش أدركَ الشاب العشرينيّ خطأه، ولجأ إلى مرمى الصواب، ولكن مَن سيوقظ مراكزَ التّخابر غير الشّرعيّة الأخرى المنتشرة على كلّ الأراضي اللبنانيّة؟ منها مركز للاتصال في حالات، وهو عبارة عن دكّان تديره امرأة متوسطة العمر يعاونها عامل بنغلادشي يتكفّل بأمور التخابر وزبائنه، ومركز للتخابر مدعوم بالـ»الواسطة» في العقيبة…
وإلى ذلك مركز للتخابر في صيدا يديره كهلٌ، ويؤمّن التّخابرَ غير الشرعي مع مختلف البلدان منذ إنشائه، حيث لم تكن هنالك هواتف في المنازل أوهواتف خلويّة، أي منذ نحو 15عاماً. أمّا أعماله فلا جهة سياسيّة أو أمنية تغطّيها، وقد فُرِضت غرامة ماليّة عليه بعد شكوى في حقّه. وعندما قرّر صاحب المركز الالتزامَ بالقانون جاء الرفضُ سريعاً نظراً للأرباح التي تتيحها الاتّصالات، فهو بعد فرضِ الغرامة عليه توقّف عن العمل نظريّاً إلّا أنّه ما لبثَ أن عاوَده باطناً.
عطاالله: لخدمات تحفَظ الواردات
وفي ضوء هذا الواقع، قال خبير الاتصالات جاد عطاالله لـ«الجمهوريّة» إنّ «ارتفاع كلفة التخابر التابعة للدولة اللبنانيّة على صعيد الانترنت أدّى إلى لجوء بعض مزوّدي الخدمات إلى قبرص لاستيراد الانترنت بأسعار منخفضة أكثر»، معتبراً أنّ «من المفروض أن يكون السعر 15 مرّة أقلّ مِن السعر الحالي».
وعن التّخابر غير الشرعي «Voice Over IP»، أشارَ عطالله إلى أنّه «نشأ نتيجة الكلفة الباهظة للتّخابر الدولي من لبنان وإليه»، لافتاً إلى أنّ «بمجرّد تخفيض أسعار الإنترنت وتعرفة الـRoaming والتخابر الداخلي تتلاشى الجدوى الاقتصادية للأفراد ويستغنون عن اللجوء إلى الأساليب الملتوية لسرقة المال العام بطريقة غير شرعية».
وإلى ذلك، يشددّ عطالله على ضرورة «مواكبة الدولة اللبنانيّة للتطوّر التقني المتسارع، نظراً إلى أقدمية خدمة الأمس وعدم مماشاتها للتكنولوجيا الراهنة، فقطاع الاتصالات يفرض شروطه ومفاعيله بغضّ النظر عن القوانين المولجة في البلد، فمثلاً نرى أنّ خدمتَي الـ WhatsApp والـ Viber اللّتين تُعتبران في نظر الدولة والقانون خدمات VOIP يُمنع التّخابر بهما، ولكن %70 من مستخدمي الهاتف الجوّال يستخدمونهما للتخابر الداخلي والخارجي»، مشيراً إلى «وجوب فتح أبواب جديدة لخدمات تقنية مُحدثة للحفاظ على واردات هذا القطاع الحيويّ الذي يموّل الخزينة اللبنانية بنسبة لا تقلّ عن %60، فمثلاً خدمات Roaming هي خدمات مكلِفة للفرد في دول العالم، فلماذا لا تلجَأ الدولة إلى خدمة الـVoice Over Wifi وعبرها تحافظ على نسبة دخلِ الخدمة وتخفّض الكلفة على الفرد اللبناني عندما يكون خارج بلده».
وقال عطالله: «نظراً للتّجاذبات السياسيّة وحساسيّة قطاع الاتصالات تتلكّأ الدولة في إصدار القوانين والتطبيقات الحديثة والخطط التطويريّة التي تساعد في نموّ القطاع». وأضاف: «في لبنان أنشِئت هيئة ناظمة لقطاع الاتصالات TRA ومن مهمّاتها الأساسيّة مراقبة تطبيق القانون ومراقبة القطاع على مسافة واحدة من جميع مزوّدي الخدمات، ولكنّها أبصرَت النور بلا أيّ دور فاعل، ما أدّى إلى استقالة مديرها العام، مع العِلم أنّه لو أتيح لها المجال للعمل بجدّية لكان القطاع تقدّمَ بنحو ملحوظ وحقّق أرباحاً جديدة للخزينة».
إنعدام المنافسة…
«عزيزي المشترك تمّ تخفيض تعرفة المكالمات الدوليّة ابتداءً مِن الأوّل من نيسان 2014 حتى 50 في المئة، رسم 300 ل.ل. من 7 صباحاً إلى 10 مساءً و200 ل.ل. من 10 مساءً إلى 7 صباحاً لمعظم أنحاء العالم». بهذه العبارة تسوّق وزارة الاتصالات/ أوجيرو خدماتها المخفّضة لمشتركيها، إلّا أنّ الواقع يكشف إنعدامَ المنافسة بينها وبين شبكات الاتصال الدوليّة غير الشرعيّة، نظراً لأسعار الأخيرة المتدنّية جداً.
ويؤكّد مصدر مطّلع في وزارة الاتصالات لـ«الجمهوريّة» إدراكَ الوزارة لوجود «دكاكين» منتشرة على الأراضي اللبنانيّة يتمّ من خلالها استخدام خدمة التواصل الدولي غير الشرعي، والمستفيد الأكبر منها هم العمّال الأجانب»، مشيراً إلى أنّ «الوزارة تشكّل المصدر الرئيسي للتخابر الدولي لعامة الشعب، وعليه، تسعى لمكافحة هذه الظاهرة عبر طرح الحلول ونتائجها، ولذلك تمّ التداوُل في طريقتين للحدّ من الانتهاكات، وتمثلت باللجوء إلى القضاء أوّلاً، إلّا أنّ هذا الحلّ تمّ التّراجع عنه نظراً لأبعاده السياسيّة كملفّ الانترنت».
ولفتَ المصدر إلى أنّه «تمّ تفضيل معالجة السّبب الرئيسي لنشوء السنترال غير الشّرعي (أي ارتفاع الأسعار) وقدرة الأخير على تقديم خدمة منخفضة التكاليف نظراً لاستخدامه تكنولوجيا تمنعها الدولة اللبنانيّة VOIP، وذلك عبر سعي الوزارة وفريقها بالتعاون مع الفريق الدولي المستقبِل للتّخابر الدولي إلى تخفيض معظم الأسعار الدوليّة وتدنّيها، إلّا أنّ هذه المحاولات لم تنجح في معظم الدول نظراً لأوضاعها الخاصة وفرضِها تعرفة مرتفعة كأثيوبيا وسريلانكا وبنغلادش والنيبال…»، وأضاف: «لا يجب إغفال أنّ وزارة الاتصالات عبر إنتاجيتها تساهم في مداخيل البلديات والتي بدورها تلعب دوراً فاعلاً في تحسين أوضاع الدولة، وإذا كان لا بدّ من تخفيض كبير لأسعار الاتصالات فسنكون مضطرّين للّجوء إلى مجلس الوزراء والحصول على موافقته، وهذا شِبه مستحيل».
الوزارة تغضّ النظر…
إلى ذلك، نوَّه المصدر بـ»توجّه الوزارة إلى إحداث رزمة عروض خلويّة خاصة بالعمّال الأجانب خلال فترة زمنيّة ليتمكّنوا من التواصل مع ذويهم في الخارج، وعبرها يمكن مواجهة ظاهرة السنترالات غير الشرعيّة»، مشيراً إلى أنّ «دراسة أجرَتها الوزارة أواخر 2015 أظهرَت تراجعَ أعداد هذه السنترالات إلى أكثر من النصف مقارنةً مع دراسة 2014 حيث كانت الأعداد مخيفة نسبيّاً».
واعترفَ بـ«غضّ الوزارة النظر عن هذه الانتهاكات غير الشرعيّة حاليّاً نظراً لـ«المعمعة» المترتّبة نتيجة الشكاوى في القضاء»، مؤكّداً «صعوبة التصدّي لأصحاب شبكات الاتصال رغم تحديد هوياتهم وداعميهم»، موضحاً أنّ «الاتصالات مع الدول لا تزال قيدَ الإتمام لتخفيض كلفة التّخابر الدوليّة».
وفي ظلّ مجتمع لبنانيّ يعشّش الفساد في بعض جنباته، تُطرح تساؤلات، منها: إلى متى سيبقى المواطن اللبناني صاحب الأفكار النيّرة عبر مزاولته الأعمالَ الفاسدة تحت سلطة القانون لكسبِ الأرباح وسدّ متطلباته الحياتيّة، بدل الالتزام بالسلوكيات الرصينة في بيئة مجتمعيّة توفّر له مختلف الخدمات؟ وهل تلاشَت الأخلاقيات الإنسانيّة وباتت المصالح والتبعات المادّية هي عنوان راحة كلّ إنسان؟