IMLebanon

الثغرة الدولية الرئاسية

«الحماس» الدولي الذي واكبَ المبادرة الرئاسية وساهمَ في تغطيتها ومدّها بالدعم المعنوي استدعى طرحَ السؤال الآتي: هل تشجيعُ بعض عواصم القرار على السير بالمبادرة يدلّ إلى أنّ الفريق المحلّي الرافض لها لم ينجَح بتسويق وجهة نظره لدى تلك العواصم من عواقب وتداعيات اختيار شخصية من 8 آذار على الاستقرار اللبناني، أم أنّ أولوية المجتمع الدولي إنهاء الشغور بأيّ ثمن؟

تلقُّفُ بعض عواصم القرار للمبادرة الرئاسية واندفاعُهم نحو تسويقها استدعى البحث عمّا إذا كان هناك من ثغرة في الموقف المحلي الرافض لهذه المبادرة أدّى إلى تشجيع تلك العواصم على المضيّ قدُماً في دعمها، واستطراداً عمّا إذا كان هناك قدرة على سدّ هذه الثغرة لطيّ صفحة المبادرة نهائياً، وقطعاً للطريق على أيّ محاولة من هذا النوع مستقبَلا؟

يفترض أن تكون عواصم القرار في صورة خطورة انتخاب شخصية من 8 آذار على رئاسة الجمهورية، وهذا لا يعني الترويجَ لوصول شخصية من 14 آذار يستحيل وصولها في ظلّ فيتو طهران-«حزب الله»، إنّما شرح تداعيات خطوة من هذا النوع على الوضع اللبناني على ثلاثة مستويات أساسية أقلّه:

المستوى الأوّل من طبيعة أمنية: كلّ فلسفة «حزب الله» بإعادة مفاتيح السراي الحكومي إلى «المستقبل» تكمن في تمكين الاعتدال السنّي من مواجهة التطرّف السنّي بغية تجنيب مناطق الحزب خصوصاً ولبنان عموماً الانفجارات والاضطرابات الأمنية، والحؤول دون تحويل لبنان ساحة «جهاد»، فيما انتخاب شخصية من 8 آذار يعني انهيار كلّ فلسفة الحزب، وإعطاء «داعش» الذريعة الكافية لاستهداف لبنان أمنياً بفعل تحَوّل مؤسساته الرسمية بدءاً من رئاسة الجمهورية إلى حليفة للنظام السوري، بعدما كانت في موقع المحايد عن هذه الأزمة، وتورّط الحزب فيها.

المستوى الثاني من طبيعة وطنية-سياسية: كلّ فلسفة القرارات الدولية، بدءاً من القرار 1559 مروراً بـ 1680 وصولاً إلى 1701 تكمن في إعادة تمكين الدولة من بسط سيطرتها ومدّ نفوذها وفرضِ هيبتها واستعادة قرارها، فيما انتخاب شخصية من 8 آذار يعني العودة بلبنان إلى ما قبل صدور تلك القرارات، وتقديمه مجدّداً على طبَق من فضّة لمحور الممانعة عن طريق تشريع هذا الواقع دولياً على غرار حقبةِ الوصاية السوريّة.

المستوى الثالث من طبيعة مسيحية: كلّ فلسفة الحفاظ على آخر بقعة مسيحية في الشرق يتمّ ضربُها وإسقاطها بمجرّد انتخاب شخصية من 8 آذار، لأنّ البيئة المسيحية ستتحوّل إلى هدف سهلٍ لـ«داعش»، الأمر الذي يتنافى مع كلّ المساعي لانتخاب رئيس تعزيزاً للدور المسيحي، فضلاً عن أنّ دعمَ المجتمع الدولي لخيار 8 آذار يعيد إنتاجَ الإحباط المسيحي واستطراداً الهجرة.، فيما كان التعويل أن يشكّل الخروج السوري مناسبةً لاستعادة المسيحيين دورَهم من داخل المؤسسات الدستورية.

وانطلاقاً ممّا تقدّم، فإنّ مباركة المجتمع الدولي انتخابَ شخصية من 8 آذار تعني أنّه قرّر التخلّي عن لبنان السيادة والاستقلال والعودةَ إلى سياسة المقايضات على حسابه، ولكنْ كيف يمكن تفسير موقف المجتمع الدولي؟ هل هو نتيجة تقصير الفريق السيادي، أم حسابات هذا المجتمع لا يدخل لبنان من ضمنها؟

وفي هذا السياق يمكِن التوقّف أمام ثلاثة أسباب:

السبب الأوّل عائد إلى الثغرة داخل الخط السيادي نفسه، حيث إنّ المجتمع الدولي تلقّفَ مبادرة من داخل هذا الصفّ، وقامَ بتشجيعها ودعمِها وتغطيتها، وبالتالي لا يمكن رميُ كلّ المسؤولية عليه، لأنّ جزءاً أساسياً من أهل البيت هُم مَن بادروا في هذا الاتجاه، فيما دورُه اقتصَر على ملاقاتهم من منطلق الحِرص على الاستقرار، خصوصاً أنّ مِن ضمن الأسباب الموجبة التي قُدّمت إليه أنّ استمرار الفراغ سيطيح بالاستقرار والطائف.

السبب الثاني عائد إلى الفريق السيادي الرافض للمبادرة والذي لم يكن أوّلاً في أجواء ما يُطبَخ في أروقة السفارات، ولم يَستبق ثانياً مواقف دولية من هذا النوع من خلال التحذير المتواصل من مغبّة التشجيع على انتخاب رئيس من 8 آذار بحجّة أنّه أفضل من استمرار الفراغ. ولكنّ تحميل هذا الفريق المسؤولية يبقى مع وقف التنفيذ، لأنّه قد يتبيّن لاحقاً أنّه لم يقصِّر على هذا المستوى، بل حاولَ في كلّ لقاءاته الديبلوماسية أن يحذّر من التراخي الدولي.

السبب الثالث عائد إلى المجتمع الدولي نفسه الذي، باستثناء حقبة الرئيس جورج بوش، لم يُظهر اهتماماً بلبنان، بل لم يتوانَ عن جعلِه جائزةَ ترضية لمحور الممانعة في حال تراجَع في هذا الموقف أو تساهلَ في تلك القضية، وكلّ ما يريده هذا المجتمع اليوم من لبنان هو الاستقرار بمعزل عن الوسيلة التي تُحقّق هذا الاستقرار، أكانت بهيمنة محور الممانعة أو عن طريق الاستسلام لهذا المحور.

ولكنْ بمعزل عن كلّ ما تقدّمَ من أسباب، تبقى النتيجة واحدة، وهي وجود ثغرة كبيرة في موقف المجتمع الدولي تشكّل تحدّياً للفريق الرافض للمبادرة وتتطلّب منه العملَ على سَدّها ومعالجتها سريعاً، لأنّه لا يكفي الاتّكاء، ولو ضِمناً، على موقف «حزب الله» الرافض لها لاعتباراته الذاتية التي قد تتبدّل في أيّ لحظة، فضلاً عن أنّ الاتّكاء على موقف الحزب يُبقي الخيارَ محصوراً بالعماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجية، ولا إمكانية لفتح الخيارات مجدّداً سوى بإسقاط المبادرة من مربّع 14 آذار وليس «حزب الله».

والثغرة في الموقف الدولي التي برزَت مع المبادرة الرئاسية قد لا تقتصر على هذا الجانب، على خطورته، إنّما قد تنسحب على جوانب أخرى في مرحلة عنوانُها التسويات في المنطقة، ما يتطلب حذراً شديداً منعاً لأيّ تسوية على حساب لبنان، كما رفعاً للقضية اللبنانية في المحافل الدولية في هذا التوقيت بالذات الذي يستدعي رفضاً للتنازل على أيّ مستوى رئاسي-سيادي، بل مواكبة دقيقة لكلّ ما يتمّ طبخه في الكواليس الدولية.

فالتدخّل الدولي يشكّل حاجة ومطلباً، ولكن في الاتجاه الذي يدعم خيارَ الدولة ويرَسِّخ السيادة، وليس في المنحى الذي يُضعِف هذا الخيار ويقوّي خيار اللا دولة، وبالتالي التدخّل المنتظر من هذا المجتمع هو لسَدّ الفراغ الرئاسي من خلال شخصية توافقية، وليس من 8 آذار.

فانتخاب رئيس في لبنان ليس تفصيلاً، وأيّ تنازُل اليوم سيستتبع تنازلات في المستقبل، فيما المطلوب الإبقاء على التوازن القائم بانتظار ما ستؤول إليه التطورات السورية، خصوصاً أنّ صدور القرار الدولي المتعلق بهذه الأزمة تحت رقم 2254 دلَّ بوضوح على دخول الأزمة السورية مساراً جديداً.

فالأولوية في هذه المرحلة هي للصمود بانتظار التطوّرات المقبلة، وعدم الإقدام على تنازلات مجانية تنعكس سلباً على المسار السيادي، وأيّ تسوية مؤقّتة يُفترض أن تعكس ميزانَ القوى القائم، وإلّا فلا مصلحة وطنية بإبرامها، لأنّها ستشكّل خَللاً لمصلحة الفريق الممانع في اللحظة التي يتمّ فيها وضع لبنان على مشرحة المفاوضات.