قراءات متباينة في حسابات الربح والخسارة للاّعبين الإقليميِّين والدوليِّين
معلومات عن تفاهم بين «حزب الله» و«القوات اللبنانية» وتساؤلات عن اختفاء الهمروجة الإعلامية بين «رجال الله» في جرود عرسال و«رجال الوطن» في جرود رأس بعلبك – القاع
قد يكون من المبكر قراءة التداعيات السياسية لمعركة جرود رأس بعلبك، غير أن ثمة استنتاجات أولية يمكن للمراقب أن يخرج بها، وهي أشبه بالوقائع.
في أولى الاستنتاجات أن الجيش في أدائه وخططه وكيفية إدارته معركة «فجر الجرود» قدم نموذجاً جديداً على ما يتمتع به من قدرات تضعه في مصاف الجيوش المتقدمة تحضيراً وإعداداً وتكتيكاً وتدريباً. وهذا أمر ليس غريباً عليه، ولاسيما أن أميركا تعتبر الراعي الأساسي لهذا الجيش ومعها فرنسا وبريطانيا. وشهد زمن الوصاية السورية عملاً دؤوباً من أجل إلحاق الجيش ضمن منظومة الجيش السوري عبر الدورات التي كان يجريها الضباط في سوريا، والتي كان كثرٌ منهم يدركون أنها دورات لا تقدم في المفهوم العسكري إضافات لهم من حيث المعرفة والمنهج والعقيدة القتالية، لكنها تندرج في إطار تطويع هذا الجيش استكمالاً للتطويع السياسي الذي حصل، والذي ترجم في «وثيقة الوفاق الوطني» تحت بند العلاقات اللبنانية السورية، وما تنج عنها من معاهدات عسكرية وأمنية. وإذا كانت الوصاية السورية قد استطاعت السيطرة على المؤسسة العسكرية من خلال ضباط وقادة قطاعات تأتمن جانبهم، لكنها لم تنجح في ضرب بنية المؤسسة العسكرية التي بقيت على مرِّ السنوات تحت نظر وأعين الغرب.
أما ثاني الاستنتاجات، فهي أن اللبنانيين لديهم توق لرؤية جيشهم الوطني، الجيش الشرعي يحقق الانجازات ويثبت قدرته على حماية الوطن والشعب، في صورة نقيضة لتلك التي يسعى سياسيون من زمن إلى تعميمها بأن الجيش غير قادر لوحده على مواجهة المخاطر، وكان آخرها ما اعتبره رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، القائد الأعلى للقوات المسلحة والقائد السابق للمؤسسة العسكرية، بعيد توليه سدة الرئاسة في حديث للتلفزيون المصري من أن سلاح «حزب الله» مكمل لسلاح الجيش اللبناني الذي لا يتمتع بالقوة الكافية لمواجهة إسرائيل. والأصح أن هناك توقاً لرؤية أن الجيش الشرعي قادر على تحقيق الانتصارات على الإرهاب في صورة تعيد توازناً على الأقل للصورة التي نجح الإعلام الحربي التابع لـ«حزب الله» عبر إدارة معركة جرود عرسال بشكل بارع بترسيخها في أذهان شرائح واسعة من اللبنانيين على قوته العسكرية التي لا تقهر، وقدرته على تأمين الحماية لهم. وهي صورة شارك في تضخيمها الإعلام المرئي من حلفاء قدامى ومستجدين طارئين، وجيوش وسائل التواصل الاجتماعي. فبين معركة «رجال الله» في جرود عرسال و«رجال الوطن» في جرود رأس بعلبك والقاع، استعادت الصورة بعضاً من توازنها، وإن كان السؤال الذي لا بد من طرحه: لماذا خفتت «الهمروجة الاعلامية» التي شهدناها في معركة جرود عرسال مع معركة رأس بعلبك والقاع؟ الجواب الذي يتبادر إلى كثيرين: إنها كانت همروجة مصطنعة بعيدة عن الأداء الإعلامي الطبيعي.
ولعل الإستنتاج الثالث في قراءة التداعيات السياسية لمعركة جرود رأس بعلبك والقاع هو الأهم وأكثرها حساسية، ذلك أن المعركة قدمت مشهداً مغايراً لواقع التوازنات السياسية في البلاد. فالإنطباع العام الذي يخيّم على الساحة الداخلية يشي بأن هناك تسليماً لحقيقة أن لبنان قد أضحى كلياً تحت الوصاية الإيرانية. وهذا التسليم ينعكس في أداء السياسيين ولا سيما في صفوف ما كان يعرف بـ«قوى 14 آذار» الذين يذهبون إلى تقديم مطالعات لتبرر مسار تحولاتهم ليس فقط التكتيكية بل الإستراتيجية، وهي مطالعات تبدأ من عدم وضوح الإدارة الأميركية في استراتيجيتها حيال المنطقة مروراً بضعف الإتحاد الأوروبي وملامح تفككه، وبالتخبط الخليجي في أزماته وحربه في اليمن وصولاً إلى معالم التسوية التي بدأت تتشكل في سوريا. وتدفع مطالعات هؤلاء إلى الاستنتاج بأن إيران في كل تلك الحروب متعددة المستويات إقليمياً ودولياً قد نجحت في ترسيخ نفوذها وتقدمها. استنتاج يترجم لبنانياً تسابقاً من القوى التي كانت حتى الأمس القريب تصف نفسها بـ«القوى السيادية» إلى خطب ودّ «حزب الله» وإلى حجز مكان على القطار الإيراني قبل فوات الأوان.
وفي هذا السياق، بدأ يطفو على السطح كلام عن خطوط فتحت بقوة بين «حزب القوات اللبنانية» و«حزب الله» ونقاشات معمقة أنتجت تفاهماً يتعدى البعد التكتيكي للإنتخابات النيابية إلى ما هو استراتيجي يصل إلى مستقبل العلاقة مع طهران، وهو تفاهم لا يتنظر سوى الظروف الملائمة لإعلانه. هذه الخطوة لا تعود مستهجنة في ظل وجود مثل هذه التفاهمات لقيادات مسيحية سواء حليفة للقوات كالتيار الوطني الحر أو مرشحة للتحالف معها كتيار المردة، ولا تعود مستغربة مع وجود حوار بين الخصمين اللدودين في المبدأ، «حزب الله» و«تيار المستقبل» وإن كان الأخير يحرص دائماً على إدراج حواره تحت عنوان تنظيم الإختلاف لإحتواء انعكاسات النزاع السني- الشيعي على البلاد.
فما قدمته معركة جرود رأس بعلبك والقاع في هذا السياق هو عدم صحة مقولة أن لبنان أصبح تحت النفوذ الإيراني، وإلا كيف يمكن تفسير كل محاولات السلطة السياسية ومعها العسكرية إلى التأكيد أن الجيش يخوض المعركة من دون أي تنسيق أو مساندة من «حزب الله» أو النظام السوري. وهو تأييد تكرر مرات عدة ولم يصدر فقط على لسان السلطة السياسية الرسمية بل أيضاً في بيان لقيادة الجيش ظهر جلياً أنه بيان مطلوب صدوره. فالولايات المتحدة الأميركية كانت الشريكة الفعلية في معركة الجيش على «داعش» سواء من باب دعمها الخاص للمؤسسة العسكرية أو من باب التزام لبنان التحالف الدولي ضد الإرهاب، وكذلك كانت بريطانيا. والرسائل الأميركية واضحة حول الخطوط الحمر الممنوع تجاوزها سياسياً وعسكرياً. وبيانات التأييد الدولية كانت جلية بإشاراتها. كل هذا ما كان ليتم لو أن لبنان قد سقط كلياً في يد إيران. فلو كان النفوذ الإيراني قد أصبح متحكماً بالكامل بكل مفاصل الدولة ومنها المؤسسة العسكرية، لما كان اضطر الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله إلى القبول مكرهاً بهذه المعادلة التي منعت أي شراكة بين الجيش و«مقاومته» التي هي في نظر الأميركيين والغرب وكثر من الدول الخليجية والعربية مصنفة منظمة «إرهابية». وهذا التصنيف يكبل الدول الغربية ذاتها ويضعها تحت المساءلة من شعوبها إذا دعمت أو زودت أسلحة وتقنيات وخبرات لأي جهة تتعامل مع منظمة مدرجة في لوائح المنظمات الإرهابية.
ومهما حاول الأمين لـ حزب الله» ربط سرعة حسم الجيش اللبناني لمعركة «فجر الجرود» بالتكامل بين المعركتين على طرفي الحدود، ومهما تجاهل الحديث عن هذا «الخط الأحمر»، فإن ذلك لا يلغي إدراكه لمفاعيل الترجمة السياسية لهذا الحظر الدولي على موازين القوى اللبنانية، وللحدود التي لا يمكنه تجاوزها. لكن المعضلة اليوم لا تكمن في المحاولات المنسقة والمدروسة لمحور طهران لقضم المؤسسات بهدف السيطرة عليها والإمساك بمجمل القرار اللبناني، بل في غياب الإرادة الوطنية الداخلية لكثير من الأطراف السياسية التي دفعت باهظاً فاتورة تحرير لبنان من الهيمنة السورية عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري 2005 ويدل أداؤها اليوم على خروجها عن ثوابتها الوطنية، والتي هي في حقيقة الأمر خروجاً عن مفهومها للصيغة اللبنانية، والتي أثبتت كل تجارب الماضي أن أي اختلال فيها غير قابل للحياة وحتى لو حاول من يظن أنه يستحوذ على القوة اليوم أنه قادر على تكريس معادلة الغالب والمغلوب.
والمعضلة هي في القراءات المتسرِّعة للمتسابقين على ركوب قطار المحور الإيراني، فالمواجهة في المنطقة لا تزال في أوجها، والكلام عن اتفاقات أنجزت على تقسيم النفوذ في المنطقة، بحيث أن اليمن سيكون من حصة السعودية مقابل أن لبنان من حصة إيران هو كلام فيه الكثير من التسطيح. فإذا كان عرَّابا الحل السياسي في سوريا هما أميركا وروسيا وإلى جانبهما تركيا وإيران والخليج، فإن أي عملية حسابية بسيطة، تؤول إلى نتيجة أن إيران في أحسن أحوالها لا تشكل سوى واحد من خمسة لاعبين هم بالطبع ليسوا متساوين في الأحجام والقوة. فكيف يمكن بالتالي الوصول إلى استنتاج بنهائية انتصار إيران سواء في سوريا أو لبنان؟