لم يكن فوز بنيامين نتنياهو في الانتخابات يتصف بهذه الدرجة من الخطورة لو كان مقتصراً على البُعد الإسرائيلي الداخلي. فالرجل هو حلقة أساسية في الحلف الهادف إلى إضعاف الرئيس الأميركي جو بايدن. وإذا نجح هذا الحلف، فسيُحْدِث انقلاباً جذرياً في طبيعة الصراع الدولي الدائر حالياً، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط.
يوم الثلثاء المقبل، ستظهر حلقة ثانية محتملة لهذا الحلف الدولي، ومن واشنطن نفسها، حيث يتوقع الخبراء فوز الجمهوريين في الانتخابات التشريعية النصفية. وبذلك، يكون بايدن في وضعية المحاصر داخلياً، خلال العامين الباقيين من ولايته الرئاسية.
ستكون النتيجة المباشرة الأبرز هي وضع قيود على السياسة المعتمدة في أوكرانيا والمواجهة مع موسكو بقيادة فلاديمير بوتين. إذ يبدي الجمهوريون اعتراضات شديدة على تمادي واشنطن في تمويل الحرب هناك «من دون حساب».
وفي الواقع، بلغت قيمة المساعدات العسكرية التي قدّمتها إدارة بايدن لأوكرانيا نحو 52 مليار دولار، أي ضعف ما تقدّمه واشنطن من مساعدات لسائر الدول في العالم. وفي رأي الديموقراطيين، أنّ هذا الدعم ضروري لحماية أوكرانيا، خاصرة أوروبا والحلف الأطلسي، من الاجتياح الروسي.
لكن الجمهوريين يقولون إنّ الاقتصاد الأميركي لا يتحمّل التمويل المفتوح للحرب. وقبل أسبوع من موعد الانتخابات النصفية المقرّرة، رفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة، في محاولة لخفض مستوى التضخّم الحادّ الذي يعصف بالاقتصاد، ما أدّى إلى تراجع الدولار مقابل اليورو والين. ويُتوقع أن يتخذ الكونغرس نهجاً أكثر تشدّداً في ما يتعلق بتمويل الحرب في أوكرانيا، إذا جاءت نتائج الانتخابات مريحة للجمهوريين.
وهذا الأمر يقلق الأوروبيين، في شكل خاص. فتقليص مستوى الدعم الأميركي سيلقي عليهم تبعات جسيمة، في ظروف صعبة. وهو على الأرجح سيضعف ثقة الأوكرانيين في قدرتهم على المواجهة، وفي مدى حصولهم على التغطية الغربية في مواجهة موسكو. وسيجد بوتين في ذلك فرصة ثمينة للتصعيد في الحرب.
وكذلك، يبدو بوتين مرتاحاً إلى صعود أحزاب اليمين المتطرف وأصحاب النزعات القومية في داخل دول الاتحاد الأوروبي ووصولهم إلى السلطة، كما حصل في إيطاليا أخيراً. فهذا الصعود يدعم الاتجاهات «الانعزالية» داخل دول أوروبا، ما ينعكس تراجعاً في ارتباط الأوروبيين بأوكرانيا وحماسهم لنصرتها.
وسط هذه المناخات يجهِّز الرئيس السابق دونالد ترامب عدَّة المعركة الرئاسية المقبلة. وهنا يجدر التذكير بالعلاقة الطيبة التي تربط ترامب ببوتين إلى حدّ الحديث عن دور للزعيم الروسي في إيصاله إلى البيت الأبيض في العام 2017.
وكذلك، هناك شراكة وثيقة يقيمها ترامب مع نتنياهو، مقابل علاقة سيئة بين بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق. واستتباعاً، يمكن التوقف مليّاً عند تصويت غالبية الإسرائيليين من أصل روسي لمصلحة قوى اليمين والتطرّف في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
إذا قام فعلاً هذا الحلف ضدّ بايدن، من داخل الولايات المتحدة وخارجها، وبشكل معلن ومستتر، خلال العامين الباقيين من عهده، فعلى الأرجح سيرجح اتجاهات الصراع، بدءاً بالحرب في أوكرانيا وصولاً إلى الشرق الأوسط حيث ستضغط حكومة نتنياهو للعودة إلى مسار ترامب البالغ التشدُّد في الملف الفلسطيني، كما في ملف العلاقات مع القوى الإقليمية، ولاسيما إيران.
وحال الضعف التي ستصيب بايدن، يمكن أن تريح قوى نافذة في العالم والشرق الأوسط، ومنها المملكة العربية السعودية التي بقيت علاقاتها بالرئيس الأميركي الحالي تتسم بالفتور والتوتر منذ لحظة وصوله إلى البيت الأبيض. وهذا ما سيؤدي مجدداً إلى تفعيل دور المملكة الإقليمي.
تحت تأثير هذه المعطيات المستجدة، يمكن النظر إلى المسار المتوقع للأزمة في لبنان. فالمناخ الدولي- الإقليمي الذي كان سائداً قبل أيام أو أسابيع قليلة، أي قبل 31 تشرين الأول، كان يُمكن أن يُفرِز رئيساً جديداً للجمهورية وحكومة فاعلة بمواصفات معينة. وأما في المرحلة الآتية فالتأثيرات الخارجية قد تُنتج رئيساً وحكومة بمواصفات أخرى، أو تُكرِّس وضعية الشغور والشلل حتى إشعار آخر.
فلا شيء يضمن أن يسمح الستاتيكو المستجد بتسهيل التسويات في لبنان. والدليل هو أنّ الانهيار الحالي انكشف في تشرين الأول 2019 تحت تأثير هذا الستاتيكو الدولي- الإقليمي إياه: ترامب- نتنياهو في مواجهة إيران وروسيا، وفي وضعية الاستضعاف لأوروبا.
ومن هنا كانت أهمية أن يسارع لبنان إلى استثمار اللحظة القصيرة، في تشرين الأول الفائت، عندما كان المجتمع الدولي يمارس أقصى اهتمام بالبلد ويبدي استعداده للاستماع إلى مطالبه، مقابل أن يسهِّل إمرار صفقة الغاز المتوسطية التي يريدها الجميع بإلحاح.
هل فات القطار على اللبنانيين أم يبقى المجال مفتوحاً لتدارك المجهول الآتي؟
التأخُّر حصل، والضرر وقع بالتأكيد. ولكن، إذا توقفت القوى اللبنانية عن ممارسة سياسة التلكؤ، وأبرمت تسوية دستورية وسياسية وخططاً اقتصادية ومالية طارئة، خلال أيام أو أسبوع أو اثنين، متداركةً ما أمكن من إيجابيات الترسيم، فقد يكون الوضع أقل سوءاً.
ولكن، إذا راهن كل طرف على تحقيق المزيد من المكاسب الداخلية أو خدمة أهداف خارجية، فثمة شهور أو سنوات قاسية ربما تكون في الانتظار. ولن تكون السلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية وحدهما في خطر، بل الجمهورية برمتها.