IMLebanon

العلاقات الدولية معقَّدة

 

 

التجارة مهمة جداً للنمو وبالتالي تساعد على التنمية اذا طبقت مع سياسات اجتماعية مناسبة.  ساهم الازدهار التجاري الذي حصل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في تخفيف امكانية حصول حروب كبرى.  أما اليوم ومع العوائق أمام العلاقات التجارية، حتى لو كانت مبرراتها كبيرة ومهمة، تعود فرص الحروب الى الارتفاع كما يحصل بين أميركا وروسيا وبين أميركا والصين.  التجارة القوية الناجحة تغير الأولويات، أي ربما تصبح المواجهات السياسية والعسكرية في أدنى السلم والرفاهية في أعلاها.

جميع الاقتصاديين يوافقون على وجود علاقة ايجابية مباشرة بين الحركة التجارية المحلية والخارجية من جهة والنمو من جهة أخرى.  هي من العلاقات الاقتصادية المثبتة في الأرقام والتي يجمع عليها أصلا أساتذة الاقتصاد في كل الدول ومن مختلف المدارس التظرية.  اذا سمح للتجارة بالازدهار، لا بد وأن يتأثر الاقتصاد ايجابا ويرتفع مستوى المعيشة ويخف النزوح السكاني المؤلم الذي نشاهده اليوم خاصة من المنطقة العربية الى أوروبا ومن دول أميركا الوسطى الى الولايات المتحدة.  هنالك علاقة سلبية واضحة بين التجارة والنزوح، للأسف لم يفهمها العديد من سياسيي العالم بمن فيهم بعض المسؤولين.

ما يتم وضعه اليوم دوليا من عقوبات تجارية له أهداف سياسية فقط ويضر بالأفرقاء جميعا.  من يصدر يخسر، ومن يستورد يخسر أيضا لكن ما يهم المسؤولين السياسيين هي المبارزة السياسية والانتصار بها حتى على حساب مصالح الشعوب.  خلقت منظمة التجارة العالمية WTO في 1995 لتطوير قواعد التجارة الدولية وتنميتها وكانت وريثة جيدة للغات GATT، لكن الدول الأساسية لم تسمح لها حتى اليوم بتأدية مهماتها كما يجب.  تحاول المديرة العامة الآتية من نيجيريا أن تخرق الحائط الموضوع أمامها وأمام مؤسستها، لكن النتائج لم تصبح بعد كما تشتهي.

زعيمة الاقتصاد الحر أي الولايات المتحدة هي التي تطبق أكثرية العقوبات التجارية على العديد من الدول.  وضع الرئيس السايق ترامب ضرائب جمركية مرتفعة على الواردات الصينية وما زالت هذه العقوبات قائمة بالرغم من اقتناع الرئيس بايدن بأن التجارة مصدر النمو كما قال مرارا.  تقوم أميركا اليوم بدعم صناعة بعض الالكترونيات التي كانت تستوردها من الصين. لكن فكرة الاستغناء عن القوة الأسيوية قائمة مع أنها عمليا مستحيلة، اذ أن الصين في نفس الوقت قوة كبيرة منتجة ومستهلكة. هنالك أيضا جهد أميركي قوي لمنع انتقال التكنولوجيا الغربية المتطورة الى الصين خاصة تلك التي يمكن أن تساعد الجيش الصيني. يمكن القول ان التجارة هي سلاح سياسي مؤثر في العلاقات الدولية وان اساءة استعمالها يمكن أن يؤدي الى مواجهات وربما حروب مباشرة.

القانون الأميركي الجديد «تخفيف التضخم IRA» يهدف الى مكافحة التلوث والحفاظ على البيئة عبر دعم الطاقات البديلة النظيفة.  ستقدم حوافز ضرائبية لصناعة السيارات الكهربائية شرط أن تنتج وتجمع كليا في الولايات المتحدة، وهذا يعتبر تخليا عن العولمة والتجارة الدولية والمصالح التجارية المشتركة.  الانغلاق الاقتصادي، وان ييرر سياسيا، لا يمكن الدفاع عنه اقتصاديا اذ أن رفع مستوى النمو العالمي يتطلب تطويرا للعلاقات التجارية والصناعية والزراعية مرورا بالتكنولوجيا.  يحكى اليوم عن محادثات أوروبية أميركية تهدف الى وضع تعريفات جمركية على الفولاذ الصيني لأهمية هذه المادة في الصناعات خاصة الثقيلة.  ما يحصل من مواجهات تجارية حاليا يمكن أن ينتشر عالميا وبالتالي يؤثرسلبا علينا جميعا.

في كل حال تبقى التجارة مهمة جدا لكنها لا يمكن أن تكون أهم من البيئة وكل ما هو ضروري للحفاظ على الطبيعة الأرضية.  لذا فالحرية التجارية يجب أن تحترم، لكن ضمن السلامة البيئية أي مع الحفاظ على الغابات والمياه والهواء وغيرها من ضروريات الحياة النظيفة.  نقول أن التجارة الحرة مهمة وتؤثر كثيرا على النمو والمستوى المعيشي، وبالتالي العكس صحيح أي أن عرقلة التجارة تعيق النمو وتعزز الفقر كما النزوح الخطير.  هنا لا بد من الكلام عن كوبا، الجزيرة الصغيرة جنوب الولايات المتحدة، التي دخلت في صراعات سياسية كبيرة منذ عقود مع أميركا وكادت أن تشعل حربا بين أميركا والاتحاد السوفياتي في ستينات القرن الماضي.  كوبا الجزيرة الجميلة التي يمكن أن تصبح قنبلة سياحية أكبر لجمالها وخدماتها تتعطل مسيرتها بسبب السياسة.

كوبا تخسر سكانها اليوم الذين يتوجهون خاصة الى الشمال الأميركي بطرق شرعية أو غير شرعية هروبا من الفقر وطمعا في تحسين أوضاعهم الاجتماعية. خلال 2022، هاجر 250 ألف كوبي الى الولايات المتحدة أي أكثر من 2% من السكان.  الهجرة الكوبية لا تتم فقط الى الشمال وانما في اتجاهات متعددة ترغب في استيراد الكوبيين الذين ينعمون بنظام تعليمي متطور. اليد العاملة الكوبية جيدة ومنتجة، لذا مطلوبة في دول الجوار.  تحسين العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وكوبا كما تخفيف العقوبات التجارية أو الغائها سيؤديان حكما الى تحسين الأوضاع الاقتصادية الكوبية وبالتالي وقف النزوح وانعاش الاقتصاد.  أما الهجرة من المنطقة العربية الى أوروبا فسببها الهروب من الفقر والبحث عن حريات غائبة.  أيهما أفضل عقوبات ونزوح أم حرية وازدهار؟

لا ننكر أن للهجرة فوائدها على الدول المضيفة.  فالولايات المتحدة التي ترفع فوائدها النقدية لمحاربة التضخم، ربما تحتاج الى رفعها بنسب أقل اذا استقبلت مهاجرين أكثر.  زيادة عرض العمالة يخفف الضغط على الأجور وبالتالي يساهم في محاربة التضخم.  في الولايات المتحدة اليوم، الطلب على اليد العاملة هو مرتين أكثر من العرض وهذا يرفع الأجور.  لذا زيادة عدد المهاجرين يساهم في تخفيض زيادة الفوائد وربما الى انخفاضها لاحقا، وذلك لصالح الدول المصدرة كما المستقبلة للعمالة.  هذا هو المنطق، أما ما يحصل حاليا فهو الانغلاق الاجتماعي المرتبط بكل شيء الا بالاقتصاد.