في حين تغرق البلاد في نفاياتها ، وتنشغل قياداتها في طمر أي حل يمكن أن يضع حدا للكارثة البيئية والصحية التي تنتظر ابناءها من دون تمييز بين طوائفهم وانتماءاتهم السياسية والحزبية، ليس في الأفق ما يشي بإمكان عقد جلسة قريبة لمجلس الوزراء، فيما بدأت كرة التهويل بالاخطار المالية التي تتهدد البلاد تكبر لتهدد الثقة بالقطاع المالي والعملة الوطنية، آخر معقلين لم تطلهما بعد يد التعطيل.
يختلف الرئيسان نبيه بري وتمام سلام اللذان يجمعهما همّ التعطيل لمؤسستي المجلس والحكومة، لجهة أسلوب العمل. الاول لا ينفك يحرك الجمود بدعوات إلى جلسات انتخاب رئيس ( وإن من دون نتيجة) أو تشريع كما حصل أمس، عله يصل إلى فرض فتح أبواب البرلمان أمام التشريع ولو تحت شعار الضرورة، في حين يعتصم رئيس الحكومة بالصبر والتريث، خشية انعكاس أي خطوة يقدم عليها، على الاوضاع الهشة أساساً بفعل التعطيل والفراغ المؤسساتي.
يخشى سلام الدعوة إلى جلسة لمجلس الوزراء ما لم تكتمل عناصر نجاحها، كما يخشى قلب الطاولة على رؤوس المعطلين، لأنه يدرك التداعيات الخطيرة لاستقالة الحكومة وتحولها إلى تصريف الاعمال، علماً أن قرار الاستقالة يتجاوز الحسابات الخاصة بسلام، وهو ليس قراراً يُتخذ على المستوى المحلي.
في أي حال، هو لن يقدم على مثل هذه الخطوة في المدى المنظور، لأسباب أقلها تقنية تتعلق بسفره إلى المملكة العربية السعودية منتصف الاسبوع المقبل للمشاركة في مؤتمر عربي – أفريقي. لن يذهب إلى المملكة رئيسا لحكومة تصريف أعمال. وعلى رغم ان الزيارة هي للمشاركة في مؤتمر، يمكن أن تشكل محطة لتجديد الدعم السعودي بالحكومة. وهذا يتوقف على أي لقاءات محتملة لسلام هناك على هامش المؤتمر.
لكن الانتظار يثقل كاهل رئيس الحكومة، خصوصاً أنه يرى حجم الاخطار التي تتربص بالبلاد في ظل التعطيل المتمادي، وهو الذي يطَلع على التقارير المحلية والدولية المعنية بواقع الاوضاع القائمة.
لم ينفك يوجه التحذير تلو الآخر من الاخطار المترتبة على الانقسام السياسي على الاوضاع الاقتصادية والمالية. واللافت أن صوته لم يلق الصدى المطلوب إلى أن بدأت الامور تخرج عن السيطرة وتدفع أكثر من مسؤول إلى رفع الصوت، ربما لأسباب تختلف عن أسباب سلام، لكنها بالنتيجة تصبّ في الخانة عينها. وكان لافتاً في هذا الصدد تحذير وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق من خطر جدي على الليرة في حال عدم انعقاد جلسة تشريعية.
ويتزامن كلام المشنوق مع تحذيرات مماثلة صدرت عن رئيس المجلس. فهل هذه التحذيرات في محلها أو لا تعدو كونها تهويلاً أو ضغطا من أجل عقد الجلسة التشريعية؟
تزخر أجندة الأشهر القليلة المقبلة بمواعيد داهمة لاستحقاقات اقتصادية ومالية ملحة من شأنها إذا لم يتم التعامل معها بجدية أن تطيح الاستقرار المالي والاقتصادي للبلاد وتسيء إلى سمعتها بسبب تخلفها عن التزاماتها.
أول هذه المواعيد يستحق نهاية كانون الاول المقبل، موعد انتهاء المهلة الممددة من البنك الدولي لاتفاق القرض المتعلق بسد بسري وقرضين آخرين بوزارة المال وقطاع التعليم، إذ ان هذه القروض معرضة للإلغاء إذا لم يتم إبرامها في المجلس النيابي.
ثاني المواعيد يتزامن مع انعقاد اجتماعات منظمة “غافي” (مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب) في شباط المقبل والذي يشكل محطة مفصلية بالنسبة إلى لبنان إذا لم يكن أقر القوانين المالية والضريبية المنتظرة منه (قانون نقل الأموال عبر الحدود، تعديل قانون تبييض الأموال عبر إضافة بند يجعل التهرّب الضريبي جزءاً من تبييض الأموال، تبادل المعلومات المتعلقة بالتهرب الضريبي والمصادقة على اتفاق الأمم المتحدة الصادر عام 1999 والمتعلق بتجفيف مصادر تمويل الإرهاب). ذلك أن المنظمة كانت أعطت لبنان فترة سماح حتى الاجتماع المقبل لها، مبدية تفهمها للظروف السياسية التي تعوق اجتماع البرلمان، لكن هذا التفهم قد لا يطول بعدما وضع لبنان ضمن لائحة الدول التي تفتقد إلى التشريعات الكافية لمحاربة الارهاب.
أما ثالث هذه المواعيد فمرتبط بالاحتمالات الكبيرة لخفض التصنيف الدولي للبنان بعدما وضعت البلاد تحت المجهر عقب خفض التوقعات من مستقر إلى سلبي (وكانت “النهار” حذرت من هذا القرار قبيل صدوره). ويستحق هذا القرار في آذار المقبل ويأتي غداة تقويم تجريه مؤسسات التصنيف من خلال زيارة ميدانية.
وعلى رغم الاخطار التي تحملها الاستحقاقات الثلاثة المشار اليها، فإن تأثيرها على الوضع النقدي يظل محدوداً، ما لم تتفاعل هذه المحطات سلبا إذا تعذرت معالجتها. وهذا ما يجعل ربط المشنوق القوانين المالية بالليرة في غير محله، ومبكراً في الوقت عينه. ولكن هذا لا يعفي السلطات السياسية من الاضطلاع بمسؤولياتها. فالأولوية الملحة اليوم للقروض والقوانين المالية قبل استعادة الجنسية وقانون الانتخاب!