Site icon IMLebanon

مؤلم هذا اليوم… إلّا إذا!

 

الإنتقام ليس كلمة في القاموس القانوني

مؤلم هذا اليوم. أراده اللبنانيون يوماً فريداً للعدالة، فحلّ عليهم محطة جديدة للإستقواء.

 

في هذا اليوم، لا ينتظر اللبنانيون كلمة المحكمة الخاصة بلبنان، براءة كانت أم تجريماً، ليرضخوا لها، بل يترقبون تداعيات إعلان الحقيقة التي توصّلت إليها وانعكاساتها.

 

كأنّ الضحية مطلوب منها أن تخاف إنْ خَرَج المتهم مجرماً، أو كأنّ عليها أن تفضّله بريئاً لأنّ ضمان سلامتها معقود على براءته.

 

هذا يوم غير مسبوق في تاريخ العدالة: المتّهم يتبختر في مسرح الجريمة، فخوراً، محمياً، مستقوياً، ويُراقب، بعين حمراء، ماذا يُمكِن أن تفعل الضحية إنْ حكمت عليه المحكمة.

 

لم يسبق أن عرفت دولة ما يعيشه لبنان اليوم: متهم غير آبه بالحكم ومعطياته ووقائعه وحيثياته، في مقابل ضحية تخشى من مغبّة الوصول الى حقّها.

 

مؤلم هذا اليوم!

 

منذ حدّدت غرفة الدرجة الأولى في المحكمة الخاصة بلبنان موعد إصدار حكم طال انتظاره في ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري و21 آخرين من ضمنهم النائب باسل فليحان، تركّز الاهتمام على مراعاة مشاعر المتّهم ووضعيته ومصالحه.

 

نسي الجميع أنّ المسألة تتصل بجريمة اغتيال كبرى زلزلت بيروت وكسرت لبنان. وبدل تحضير البلاد حتى تقف الى جانب الضحية وتكون على قدر تضحيات الشهداء، استُدعيت الضحية الى “مجالس الحكماء”، ليُلقوا عليها دروس الخوف والتنازل والتغاضي.

 

وجاء تفجير المرفأ الكارثي، على بعد ثلاثة أيام من الموعد الأوّل لإعلان الحكم.

 

لم تأخذ الكارثة اهتمام اللبنانيين الى مكان آخر، إلّا لفترة وجيزة، لأنّ سرعان ما اكتشفوا أنّ حالهم مع هذه الكارثة مثل حال رفيق الحريري مع انفجار 14 شباط 2005.

 

تذكّروا الإدّعاءات الكاذبة والوعود الموهومة والتبريرات المتلاحقة، وعندما طالبوا بلجنة تحقيق دولية، تصدّت لهم الجهات نفسها التي سبق أنْ تصدّت للمطلب نفسه في ملف انفجار “سان جورج”.

 

حوّل المتصدّون لمطلب لجنة تحقيق دولية، ملف رفيق الحريري، الى مثال سيئ لدعم تصدّيهم. صدّقوا في ذلك أنفسهم، كأنّ اكتشاف عدد من المتورطين باغتياله الإحترافي الكبير، بعد جهد عظيم كلّف شعبة المعلومات عمليتي اغتيال ومحاولة اغتيال،عمل تآمري.

 

لم يكتفوا بتحويل كارثة المرفأ الى حجاب سميك ليغطوا به على حكم المحكمة الخاصة بلبنان، بل حوّلوها الى إدانة مسبقة للحكم المنتظر، إذا أتى تجريمياً. ولمّا عادت المحكمة، في ضوء تداعيات الإنفجار وإعلان لبنان الحداد الرسمي، وحدّدت الثامن عشر من آب 2020 موعداً جديداً، لإعلان الحكم، عاد “مجلس الحكماء” الى وصاياه نفسها.

 

“مجلس الحكماء” هذا لم يضم يوماً حكيماً واحداً، بل هو مزدحم بالخائفين والمستسلمين والإنتهازيين.

 

الحكيم يحب الحقيقة ويسعى اليها، ولا يهاب تداعياتها.

 

الحكيم يعرف أنّ القاتل إذا أُتيح له أن يستقوي على العدالة، فهو لن يخشى، بعد هذا اليوم، أي عقاب ولن يجد أمامه أي رادع.

 

الحكيم يدرك أنّ من نجا مستقوياً من قتل غيرك، سوف يقتلك غداً، إن أنتَ عارضته، وإن أنتَ تصديت له، وإن أنتَ تعرّضتَ لمصالحه.

 

الحكيم يفهم أنّ من يحمي القاتل إنّما يفعل ذلك ليستخدمه لاحقاً.

 

الحكيم يُبصر أنّ بلداً لا يقوى على قاتله، لن يعرف أبداً معنى للعدل وللحرية وللديموقراطية.

 

الحكيم يتأكّد أنّ بلداً يسكنه الخوف يتحوّل الى مجموعة من الحفر الكبيرة، والى مقابر ضخمة، والى غابات محروقة، والى شواطئ منهوبة، والى أنهر ملوّثة، والى مصارف مفلسة، والى خزينة مثقوبة، والى هواء موبوء، وإلى شعب مهاجر.

 

إنّه يوم مؤلم!

 

ثمة من لا يريد أن يستذكر اللبنانيون الدوافع التي من أجلها اغتيل الرئيس رفيق الحريري.

 

ليس المطلوب أن تحبّ رفيق الحريري لتفهم لماذا اغتيل، بل المطلوب أن تحبّ نفسك، لتُصِر على ذلك. ليس كل من تنظر محاكم الجنايات في لبنان والعالم في ملفاتهم تحبّهم الجماهير أو حتى تعرفهم، لكنّ الجميع يهمّه أن تأخذ العدالة مجراها وأن تستخلص السلطة الدروس، حتى تُدرك كيف تكافح الجرائم تمهيداً لوضع حدّ لها.

 

هذه المعادلة تنطبق كلياً على ملف استشهاد الرئيس رفيق الحريري. إنّ معرفة أسباب اغتياله ودوافعها تلقي الضوء على حاضر لبنان ومستقبله. إنّ التواطؤ، تحالفاً أو خوفاً أو طمعاً، مع قاتليه يُحقّق الأهداف الكامنة وراء اغتياله.

 

هذا هو المفهوم الكامل للعدالة ومعانيها وأهدافها.

 

الإنتقام ليس كلمة في القاموس القانوني، بل كلمة مستقاة من قاموس المافيا، تماماً كفرض الصمت فرضاً وكالإفلات من العقاب. ما هو معروض على اللبنانيين اليوم أن يغرقوا في عواطفهم وينسوا أنّ مصلحتهم الحقيقية في العدالة وتطبيق أحكامها.

 

رفيق الحريري لم يتم اغتياله لأسباب عاطفية، بل لأسباب سياسية واضحة.

 

يمكنك أن تكرهه، كما يمكنك أن تحبّه، لكن المسألة في مكان آخر أكثر أهمية وأكثر وجودية، وتتمحور حول لبنان ووضعية لبنان وصفات حكّام لبنان وطريقة انقاذ لبنان ومفهوم استقلالية لبنان، والتطلع الى رفاهية شعب لبنان.

 

مؤلم هذا اليوم!

 

أتمنّى أن تكون نهايته مفيدة. أن نُشاهد مدّعي عام التمييز يستدعي جميع قادة الأجهزة الأمنية ويطلب منهم بذل أقصى جهدهم لاعتقال كل من تتم إدانته. أن يدعو رئيس مجلس النواب نبيه برّي الى جلسة لمجلس النواب لمناقشة الخطوات الواجب اتخاذها لاستخلاص العبر السياسية والقانونية من حكم المحكمة الخاصة بلبنان. أن تلتقي القيادات التي طالبت بالعدالة الدولية وتتفق على متابعة تنفيذ حيثيات الحكم.

 

عندما تعلن المحكمة الخاصة بلبنان حكمها، خصوصاً أنّها كانت قد راعت القواعد المثلى للعدالة إلى درجة أصابت المتابعين بالملل وأخذت من الوقت زمناً وافراً، تنتهي النقاشات والجدليات، ويبدأ التنفيذ.

 

إذا لم ينتقل الحكم من النطق العلني الى الإجراءات التنفيذية، لماذا كانت المحكمة أساساً؟

 

اللبنانيون لم يكونوا يفتشون عن رواية، بل كانوا يسعون الى العدالة. والعدالة ليست رواية واقعية بل هي حجر الزاوية لخطوات واعية وواعدة. وهذه الخطوات ليست انتقاماً، ولا استغلالاً، ولا مسّاً بالسلم الأهلي، بل هي محاولة لمنع الجريمة من تحقيق أهدافها.

 

حتى صباح هذا اليوم، مسار التحقيقات كما مسار المحاكمة، لم يسمح بعرقلة أهداف الجريمة، بل العكس هو الصحيح، فهل يفعلها الحكم؟

 

لننتظر!