تزامناً مع 5 مآتم لتشييع قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني من بغداد الى كرمان، انطلقت حملة ديبلوماسية في المنطقة للتحذير من الترددات المحتملة لاغتياله. فالعملية لم تستهدف ضابطاً عادياً، فهو كان متقدماً على نظرائه في الجيوش الإيرانية المتخصصة. واذا كانت التحذيرات قائمة على مستوى ساحات المواجهة بين طهران وواشنطن، فما الذي حملته للبنان؟ وهل يصغى لتداركها؟!
يعتقد عدد من الديبلوماسيين المعتمدين في بيروت انّ حبراً كثيراً سيسيل عند تحليل أو توقّع النتائج المترتبة على اغتيال سليماني والأشكال المتوقعة للرد على عملية من هذا النوع، ليس نظراً الى حجم الشخص ودوره، وإنما الى مستوى موقعه في الإدارة الإيرانية. فاغتياله طاولَ شخصاً يستحق ان يسمّى مرشداً للثورة الإيرانية المصدرة خارج حدودها الجغرافية وباني مجدها ما وراء البحار. وهو شغل منصباً كان له ما يشبهه في فرنسا وبريطانيا والبرتغال وبريطانيا قبل إعلان استقلال عدد من الدول التي كانت تخضع للانتداب، وهو تقليد ما تزال تمارسه المملكة الإنكليزية في علاقاتها مع اوستراليا حتى اليوم.
لم يستذكر ديبلوماسي غربي مثل هذه المعادلة لتأكيد سِعة اطّلاعه التاريخية فحسب، ولكن للإشارة الى الحجم الذي اكتسبه سليماني في السنوات الأخيرة وظهَر جلياً انه لا يعلوه في نظام بلاده ـ بحكم قوة الأمر الواقع – سوى المرشد الأعلى للثورة الامام علي خامنئي، وليشير لاحقاً الى ضرورة ان يتحسّس كثر من القادة أصدقاء ايران في العالم أينما وجدوا في البلدان التي انتشرت فيها فصائل «الحرس الثوري» بالأسماء المحلية التي اكتسبتها هذه التجربة. فهو باني مجدها، سواء في اليمن أو في لبنان كما في سوريا والعراق التي تعيش تجربة «الحشد الشعبي» الى جانب المؤسسات العراقية العسكرية قياساً على دور الحوثيين في اليمن و»حزب الله» في لبنان.
وبناء لما تقدّم، لا يعجز الديبلوماسي عن تقديم سيناريو واحد للرد الإيراني ما لم تحصل اي مفاجأة. فالرد بتقديره لن يكون إلّا بأيد إيرانية مباشرة، وهو ما حصل أمس في قاعدة عين الأسد احتفاظاً منها بهيبتها والحد ممّا مَسّها في عملية مطار بغداد وفي منطقة تحتضن الإيرانيين بكل أشكال العطف والتسهيلات.
في هذه الأجواء، وانطلاقاً من هذه الخلفيات، انطلقت الحملة الديبلوماسية الأوروبية والاميركية في بيروت وسبقتهما الديبلوماسية الأممية بعد جولة المنسّق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش في أعقاب العملية بساعات قليلة – ورغم عطلة الميلاد الأرمنية – على كل ّمن رئيس مجلس النواب نبيه بري ووزير الخارجية جبران باسيل، قبل ان يزور قصر بعبدا امس الأول مُحذّراً باسم مرجعيته الأُممية من ترددات الحادث وإمكان استخدام الأراضي اللبنانية للرد.
وبعد الحراك الأممي، رصدت حركة سفراء الولايات المتحدة الأميركية اليزابيت ريتشارد والبريطاني غريس رامبلنغ والفرنسي برونو فوشيه ما بين دوائر الخارجية والمواقع الرسمية للغاية عينها، مع إطلاق مزيد من التحذيرات من أي عمل عسكري قد يقود الى إلحاق لبنان بالمنطقة الملتهبة من حوله، فهو ساحة تخضع للمراقبة المشددة نتيجة التأثيرات الإيرانية على فريق من اللبنانيين. وفي المعلومات التي تسرّبت من هذه اللقاءات انّ السفراء الأجانب نَبّهوا بضرورة لجم أي تحرّك يقود الى توتير الساحة اللبنانية. فالبلد، بما يعانيه من مصاعب مالية واقتصادية وسياسية نتيجة فقدان الحكومة التي تدير شؤون البلاد والعباد وفي ظل سلطة تتأرجح بين حكومة تصريف اعمال مشلولة ومشروع تشكيل حكومة جديدة، ما زال متعثراً. بالإضافة الى التنبيه من مخاطر الرد المحتمل على أي عملية يمكن ان تستهدف مصالحها في لبنان تحديداً كما في المنطقة.
ونصح الديبلوماسيون مَن التقوهم – بعد العتب الذي تبلّغه وزير الخارجية حيال مضمون البيان الذي أصدرته الوزارة عقب اغتيال سليماني – بضرورة قراءة ما عبّرت عنه العمليات العسكرية الأميركية ما بين 29 كانون الأول الماضي تاريخ قصف قواعد «الحشد الشعبي» في العراق وسوريا وصولاً الى عملية 4 كانون الثاني في مطار بغداد. ففي اعتقادهم أنها ليست معزولة أو خارج سياق تنفيذ قرار أميركي كبير اتخذ بتقليم أظافر خصومها في المنطقة، واستخدام القوة العسكرية المؤجّل منذ أشهر على رغم الضربات التي تلقّتها واشنطن على يد ايران منذ إسقاط طائرتها التجسسية في محاذاة مياهها الإقليمية في 20 حزيران 2019، وضرب منشآت شركة «أرامكو» في 14 ايلول الماضي، والعملية التي شهدتها قاعدة «عين الأسد» التي تستخدمها القوات الأميركية في محافظة الأنبار في 27 كانون الأول الماضي، والتي ذهب ضحيتها متعاقد مع الجيش الأميركي إضافة الى جرح عسكريين أميركيين.
ولفتَ الديبلوماسيون الى أن ليس من مصلحة لبنان ان يكون شريكاً في الرد أيّاً كان الموقع الذي يحتلّه «حزب الله» في المعادلة اللبنانية. وإنّ نتيجة أي رد لن تقتصر على الحزب والبعض من قيادييه بل ستطاول لبنان بكامله، في مرحلة لا يمكنه تحمّل أي خضّة إضافية عدا عن كونها قد تصبّ في مصلحة المتطرفين في لبنان كما في البلدان التي يمكن ان تكون مسرحاً لها، وهو أمر لا يتحمّله المجتمع الدولي الذي ما زال في حربه التي يخوضها ضد الإرهاب.
ولأنّ المجالس بالأمانات، فقد تحدث الديبلوماسيون مع مَن التقوهم عن كثير من المخاوف المرتقبة في حال تورّط أي لبناني في اي عملية من هذا النوع. ولم يُخفوا تعجّبهم من قراءة بعض المسؤولين لِما حدث، واستخفافهم بما قد يترتّب على أي «دعسة ناقصة» أو أي عمل قد يقوم به «طابور خامس» انطلاقاً من الأراضي اللبنانية او عليها. في وقت عبّروا عن خشيتهم من إدارة المسؤولين اللبنانيين «الأذن الصمّاء» للتحذيرات القاسية عند أي مقاربة تتناول الجديد المرتقَب في حال حدوث أي خلل أمني. وهو ما وَلّد اقتناعاً لدى احد هؤلاء الديبلوماسيين، الذي ما زال يراقب الجدل القائم حول هذه الحقيبة أو تلك، ويحول دون تشكيل الحكومة العتيدة لتقوم بما عليها من واجبات تعيد ثقة اللبنانيين والعالم بالمؤسسات الدستورية وإمكان القيام بالحد الأدنى من الاصلاحات التي يمكن أن تحيي الاهتمام الدولي بلبنان.