يطرح البعض ضرورة تدويل القضية اللبنانية سعياً للخروج من الأزمة التي تعصف بلبنان منذ فترة طويلة، ولم تجد هذه الدعوات طريقها إلى التنفيذ لاعتبارات محض دولية تتعلّق بأولويات هذه الدول وانشغالاتها.
لم تدوَّل الأزمة اللبنانية في العام 1989 مع اتفاق الطائف سوى بعد ان شعر المجتمع الدولي انّ هذه الأزمة سيكون لها انعكاسات على المحيط وما كان يُهيّأ له على مستوى السلام العربي-الإسرائيلي، والدليل ان لبنان تُرك لمصيره 14 عاما من الحروب والفوضى قبل ان يبادر هذا المجتمع إلى الدفع باتجاه حسم الموقف وإنهاء الحرب.
والقوى السيادية التي شكل التدويل ويشكل مطلباً لها لم تنجح في إقناع المجتمع الدولي في ضرورة فرضه وفي طليعتها البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي دعا صراحة إلى مؤتمر دولي لحلّ الأزمة اللبنانية بإعلان الحياد وتطبيق الدستور، إلا ان «حزب الله» قدّم لهذه القوى هدية لا تثمّن من خلال تهيئته الأرضية لتدويل من هذا القبيل بعدما أصبح دوره يشكل خطرا وقلقا إقليميين، ووضع نفسه في مواجهة مع الدول الخليجية بدلاً من حصرها في النطاق اللبناني.
ولم يتحوّل «حزب الله» إلى مشكلة أكبر من لبنان سوى بعد ان خرج إلى القتال في سوريا والعراق واليمن، وفتح مراكز تدريباته العسكرية للحوثيين وغيرهم، فتحوّل إلى لاعب إقليمي واستطرادا مشكلة إقليمية لا لبنانية فقط، ولو بقيت مشكلة محلية لما كان أحد بادرَ، ربما، إلى معالجة هذه الإشكالية.
فخطأ «حزب الله» وخلفه طهران طبعاً، كونه لا يُقدِم على أي دور أو مهمة من دون طلبها، انه حُمِّل دوراً أكبر من قدرته على احتماله، ليس عسكريا وأمنيا بطبيعة الحال، لأنه ينفِّذ المهمة الموكلة إليه، إنما سياسيا باعتباره في نهاية المطاف حزبا منبثقا من طائفة لبنانية ونشأ وتوسّع ضمن الحيّز اللبناني بعنوان مقاومة إسرائيل قبل ان يتوسّع دوره إقليميا من البوابة السورية.
وباستثناء القرار 1559 والمرحلة القصيرة التي تلته عندما كان التركيز الدولي يتمحور حول دور «حزب الله» المانع لقيام الدولة، فإن المجتمع الخارجي عاد وتطبّع مع فكرة وجود الحزب طالما ان نطاق تأثيره لا يتعدى الحدود اللبنانية، خصوصا في ظل غياب الإرادة الدولية لإنهاء الأزمة اللبنانية بالقوة.
وبدلاً من أن يُبقي «حزب الله» مواجهته مع القوى اللبنانية التي ترى في سلاحه ودوره عائقا أمام قيام الدولة، نقل هذه المواجهة إلى الدول الخليجية وفي طليعتها المملكة العربية السعودية، وتحوّلت معظم خطابات أمين عام الحزب ومواقفه إلى حملات تحريضية ضد الرياض من دون ان يأخذ في الاعتبار عواقب هذا التوجُّه.
ومهما كبر دور الحزب وتوسّع إلا انه يبقى قوّة محلية محدودة ويستحيل عليه مواجهة دولة بحجم السعودية تخوض مواجهة مع إيران ودورها وأذرعها، ولكنه استطاب هذا الدور الذي يجعل منه حزباً يواجه دولة، واعتقد ان الأمور ستبقى ضمن هذه الحدود على غرار مواجهته مع إسرائيل، ومن دون ان يقدِّر ان المواجهة مع تل أبيب بعنوان المقاومة تختلف عن المواجهة مع الرياض التي حبست أنفاسها وعضّت على جرحها وأعطت إشارات عدة بأنّ هذا النهج سيجعلها تعيد النظر في علاقتها مع لبنان، وبدأت بمراجعة هذه العلاقة وأقدمت على خطوات تراجعية وانسحابية وصولا إلى سحب السفراء وانفجار العلاقة مع مواقف وزير الإعلام المستقيل جورج قرداحي.
فالخطوة التي أقدمت عليها المملكة مؤخرا لم تكن مفاجئة ولا معزولة عن سياق الأحداث، إنما حصلت كنتيجة طبيعية لمواجهة أرادها «حزب الله» ووجدت الرياض نفسها مُجبرة على رفع سقف المواجهة معه بوضعها مع الدولة اللبنانية في آن معاً بسبب إمساكه بقرارها، فيما لم يكن يتوقّع الحزب لا ردة الفعل السعودية، ولا عدم مجاراته من اي فريق لبناني والوقوف إلى جانبه، ولا عدم قدرة لبنان على تحمُّل مواجهة مع دولة صديقة وداعمة أساسية له.
فلقد أخطأ «حزب الله» في الحساب والتقدير، متوهّماً انّ باستطاعته مواجهة السعودية بالنيابة عن إيران التي بدورها فوضّته بالمهمة واتكأت عليه معتقدةً انه أحسن ويُحسن هذه المواجهة بإلهاء المملكة بمعارك جانبية لا تتورّط فيها مباشرة، ولكن ردة فعل الرياض جاءت مزدوجة: قطع العلاقة مع لبنان وتحذيره من مغبة مواصلة تغطية «حزب الله»، والتعامل مع الأخير كهدف يجب وضعه عند حده، اي عدم الاكتفاء بمواجهة إيران، إنما مواجهة أذرعها كأهداف رئيسية لا فقط ثانوية.
ومن الواضح ان الرياض لا تريد الاكتفاء بانتظار التسوية مع طهران لمعالجة أذرعها في المنطقة في ظل مقاربة ديبلوماسية تدعو إلى التركيز على إيران والمفاوضات معها وإهمال الأذرع كون التسوية كفيلة بحلّ أنشطتها على مستوى المنطقة بالجملة بدلاً من حلها بالمفرّق، إنما لجأت الرياض إلى مواجهة مزدوجة مع طهران أولاً ضمن سياق توازن الرعب، ومن ثمّ مع أذرعها بالمفرّق من الحوثي في اليمن إلى «حزب الله» في لبنان»، وهذه المواجهة تؤدي إلى محاصرة إيران بدءاً من المركز وصولاً إلى الإقليم.
وجاء البيان السعودي-الفرنسي ومن ثمّ البيان السعودي-الإماراتي ليؤكد على عمق توجُّه الرياض وتركيزها على جانب تغييب الدولة من قبل «حزب الله» ومطالبتها الواضحة والصريحة بتطبيق القرارات الدولية واتفاق الطائف وحصر السلاح بيد الدولة وضبط الحدود وإزالة البؤر الأمنية التي شكّلت حاضنة للتنظيمات التي تستهدف أمن المنطقة واستقرارها، ما يعني ان السعودية ربطت أي حلّ لعمق الأزمة مع لبنان بمعالجة سلاح «حزب الله» ودوره.
وإن دلّ البيان السعودي-الفرنسي ومن ثمّ البيان السعودي-الإماراتي على شيء، فعلى انّ مشكلة «حزب الله» لم تعد تقتصر على الداخل اللبناني على غرار ما كانت عليه منذ العام 2005، إنما تحولت إلى مشكلة إقليمية بسبب دوره في اليمن والعراق وسوريا وغيرها من الدول. وبالتالي، أقحمَ نفسه بدور يتجاوز حجمه وطاقته وقدراته وإمكاناته، واضعاً نفسه في مواجهة لم يعد باستطاعته الخروج منها من دون أثمان سياسية والعودة إلى الوضع الذي كان فيه قبل ان يتحوّل إلى هدف خليجي.
لقد حوّل «حزب الله» التدويل إلى أمر واقع ومشكلته لم تعد تقتصر على اللبنانيين، إذ في موازاة الانهيار الذي انزلق إليه لبنان بسبب مشروع الحزب القابض على الدولة والذي يصعب الخروج منه بالوسائل الكلاسيكية والإجراءات الروتينية، فإنّ الأمر يتطلّب معالجة في العمق لا في الشكل والمسكنات. وبالتالي في موازاة ذلك إن الدول الخليجية وفي طليعتها السعودية وضعت شرطا لاستعادة لبنان علاقاته الطبيعية معها وهو تسليم «حزب الله» سلاحه إلى الدولة اللبنانية، لأنه من خلال إمساكه بقرار الدولة حوّل لبنان إلى منصة متقدِّمة ليس لاستهداف إسرائيل، بل لاستهداف الدول الخليجية.
وعليه، لم يعد بالإمكان الخروج من الأزمة اللبنانية بشقيها الداخلي والخارجي قبل تدويل هذه الأزمة بعدما تحوّل لبنان بسبب «حزب الله» إلى دولة تهدِّد الاستقرار الإقليمي