يُحيلُ رفض الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله التدويل الى سوابق مشابهة مرَّ فيها لبنان منذ انفجار أزماته قبل 45 سنة. والموضوع في الأساس ليس التدويل أو عدم التدويل، ولا هو في التعريب أو عدمه، ولا في العولمة أو في العوربة… إنه موضوع أن يكون لبنان دولة طبيعية، لها نظامها السياسي التوافقي الديموقراطي المنبثق من تجربة تاريخية مديدة، خاضتها قواه الاستقلالية قبل أن يحلم أحد بالاستقلال في المشرق، وتابعتها منذ قيام لبنان الكبير وبعد جلاء الجيوش الفرنسية…
طوال تلك السنين ترسخت بنسبة كبيرة مفاهيم البرلمانية وتداول السلطة عبر الانتخابات، وأُبقي الباب مفتوحاً على تطوير المؤسسات التي أرسيت في عهد فؤاد شهاب، مع نافذة ولو ضيقة على تطوير النظام باتجاه العلمنة والانتهاء من الطائفية الموصوفة بالبغيضة منذ ايّام الاستقلال الأولى.
الا ان اندلاع الصراع المسلح في 1975 قضى على المسارات الواعدة وعلى تفاؤل المتفائلين. انقسم اللبنانيون بين مؤيد للمنظمات الفلسطينية وبين معارض لها، وادى التدخل السوري المسلح الى مواجهة فلسطينية سورية سار اللبنانيون في مجراها. الفلسطينيون وحليفتهم الحركة الوطنية نادوا بالتعريب رداً على الهجوم السوري، واتخذ الفريق اللبناني الآخر موقفاً مؤيداً لسوريا في رفض التعريب. كان الهدف السوري يومها الإنفراد في معالجة المريض اللبناني ولو عبر خنقه.
رفض النظام السوري أي إشارة للتعريب الى أن وافقت المجموعة العربية على توغل قواته في لبنان بصيغة قوات الردع العربية. كانت الحركة الوطنية قد دجنت بعد إغتيال زعيمها كمال جنبلاط، وصارت الى جانب منظمة التحرير من دعاة التعريب السوري للمسألة اللبنانية، فيما كان الطرف اللبناني الآخر ممثلاً بالجبهة اللبنانية ينتقل بعد صدامه مع السوريين الى المطالبة بالتدويل، ليتولى أنصار سوريا الجدد ردع تلك المطالبة بالتأكيد على التعريب… الى ان نفض العرب يدهم من إيغال نظام الأسد في تفتيت لبنان ومنع التسوية فيه حفاظاً على مصالحه وخدمةً لخياراته.
عاد التدويل ليلقى قبولاً في لحظة الغزو الاسرائيلي الشامل، وتلاقت عندها شعارات ومصالح المهزومين، فاستحضر السوريون القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في عام 1978، بعد تغييبه طويلاً، ليصبح لازمةً للخطاب السياسي الرسمي اللبناني في مواجهة نتائج اجتياح 1982، واستمر الأمر على هذا النحو الى ما بعد إتفاق الطائف، وما بعد التحرير في عام 2000. ففي كل هذه المسافة الزمنية لم يجد مشروع الهيمنة على لبنان تبريراً صالحاً لاستمرار هيمنته الا الـ425، خارج التعريب والتدويل، وبما يخدم “سورنة” لبنان في ظروف أكثر تعقيداً. بديهي أن نتساءل اليوم هل كان لبنان في حاجة الى كل تلك الأهوال، والنقاشات الدموية حول التعريب والتدويل، لو لم تكن “سورنة” النظام والكيان هي الهدف؟ وهل أن التدويل او التعريب هو هدف بذاته لينقسم حوله الناس، أم أن رفض العودة الى الدولة السيدة الديموقراطية هو الذي يدفع باتجاه احاديث متجددة حول هذه المواضيع؟
يعرف السيد نصرالله ويعرف اللبنانيون الآخرون أن المشكلة هي في إنهيار الدولة واستباحتها، وأن المطلوب عودتها لبنانية بكامل صفاتها الدستورية والتوافقية. ولأن الأمور تسير في غير هذا الاتجاه سيستنجد اللبنانيون بالدعم الدولي، مثلما يسوِّق نصرالله لحسنات الحرص الإيراني… لكن في أعماق الذاكرة ان النظام السوري سلك الطريق نفسه لتأبيد سيطرته ولَم ينجح، وليس للوريث الإيراني بأي حال مواصفات الشقيق السوري الذي نصحه البطريرك صفير يوماً بالإهتمام بمنزله الخاص وترك شقيقه يبني حياته الخاصة.