مفهوم السيادة غير قابل للتجزئة، تماماً كمفهومي الحرية والديموقراطية. هذا ما تنص عليه العلوم السياسية وهذا ما يفرضه المنطق. لا يمكن لدولة ما أن تمارس سيادتها في مجالات معينة وتتخلى عنها في مجالات أخرى لأن ذلك لا يمس بهيبتها ودورها فحسب، بل أيضاً لأنه يعطل قدراتها على تأدية وظيفتها بشكل كامل غير منقوص ويشل كل مسارات العمل الدستوري والمؤسساتي ويجعلها عرضة للتعطيل عند كل مفترق طرق أو منعطف ليصبح ملائماً لذوي النفوذ من منتهكي السيادة.
لذلك، عندما تطالب قوى سياسية ومرجعيات وطنية باستعادة السيادة المختطفة، فإنها تسجل مطلباً محقاً يتطابق مع الحد الأدنى من وظائف الدولة التي لا تزال في لبنان محاولة غير مكتملة العناصر بفعل تعدد الولاءات وتداخل المصالح الاقليمية مع بعض الأجنحة المحلية التي تنفذ أجنداتها وتفاخر بها.
ولكن السؤال: كيف تكون مطالبة المجتمع الدولي باستعادة إهتمامها المفقود بلبنان مسألة مرفوضة سياسياً وأخلاقياً تحت عنوان أنها تصب في إطار التدخل الخارجي، بينما يكون تمويل وتسليح وتقوية قوى محلية من أطراف خارجية بما يتناسب مع مشاريعها الفئوية الخاصة مسألة مقبولة سياسياً وأخلاقياً؟
بمعنى آخر، كيف يجوز لأطراف معينة مصادرة القرار الوطني اللبناني المستقل بدعم خارجي، ولا يجوز لأطراف أخرى تسعى إلى تحقيق الحد الأدنى من التوازن الوطني لاستعادة القرار المسلوب القيام بذلك، علماً أن الأول يفعل ذلك بقوة السلاح بينما الثاني لا يطلب أكثر من الدعم السياسي والمعنوي؟
قد يكون مصطلح “التدويل” مثيراً للجدل لأن مضمونه كذلك. ولكن ما يُطرح اليوم من قبل بكركي ومرجعيات أخرى لا يستبطن الدعوة لاستقدام قوات أجنبية لأن ذلك يعني بشكل بديهي دعوة لإشعال نزاع مسلح يؤدي إلى انفجار كبير تبدو عناصره شبه ناضجة على ضوء الانقسامات الوطنية العميقة والكبرى.
كما أن الدعوة لا تشمل تطبيق الفصل السابع أو حتى تنفيذ بعض قرارات الشرعية الدولية بالقوة لا سيما أنها تثير مخاوف وحساسية قوى محلية تملك من القوة ما يجعلها قادرة ليس فقط على تعليق مفاعيل التطبيق القسري، إنما أيضاً على خلط الأوراق وقلب الطاولة بشكل تام على كل ما هو قائم حالياً.
لذلك، دعوة المجتمع الدولي للانخراط مجدداً في القضية اللبنانية والالتفات مجدداً لهذا البلد الذي تغيرت هويته الوطنية ويُسحب عنوة للالتحاق بمحاور لا تتلاءم بطبيعتها وتركيبتها وأهدافها مع موقعه الطبيعي ودوره التاريخي هي دعوة محقة ومشروعة ومفهومة. ما هو غير مفهوم ومقبول هو الاصرار على إخراجه من الحاضنة العربية التاريخية التي لطالما كانت قائمة ومتجذرة في سياسته الخارجية على مدى عقود.
لم يسبق أن انقطع لبنان عن محيطه العربي والدولي كما هو حاصل حالياً، ولم يسبق أن عاش عزلة وغربة تامة عن هذا المحيط. لطالما كان لبنان عنواناً للانفتاح والتواصل والحوار، وكان ولا يزال عنواناً للتعددية والتنوع. فهل المطلوب تغيير هوية لبنان وثقافته من خلال الانقضاض على هذين الارث والدور؟
ثم، ألم يحن الأوان للاقلاع عن سياسة التخوين والاتهام بالعمالة؟ أليس هناك من حجة سياسية قائمة على الأدلة والبراهين والمنطق لمواجهة المنطق الآخر بدل السقوط في فخ الاتهامات العشوائية الرخيصة التي لا تسهم إلا في توتير الأجواء وإسقاط الثقة بين الأطراف المختلفة مع ما يعنيه ذلك من إنعكاس مباشر على الشارع أو “الشوارع” المختلفة المتقابلة التي تتباين وجهات نظرها من الثوابت الوطنية الكبرى وتختلف في تفسيرها ومقاربتها.
لبنان يستحق مقاربات مختلفة وسياسات مختلفة ونتائج مختلفة!