يتبين يوماً بعد يوم أن قطاع الاتصالات ليس الثروة التي تتنفس منها الخزينة اللبنانية فحسب. هو أيضاً ثروة لكثير من المنتفعين والسارقين والفاسدين، الذين يصدف أنهم مجهولون معلومون، لا يمكن للعدالة أن تطالهم، لأن حماياتهم السياسية أطول من يد القضاء.
الشواهد كثيرة والفضائح أكثر، ليس آخرها الانترنت غير الشرعي أو الاتصالات الدولية غير الشرعية. هي حلقة متكاملة من الهدر، بدأت مع بداية التسعينيات وما تزال مستمرة، من دون أن يتمكن القضاء من إيصال المجرمين إلى السجن.
قضية بيع خطوط E1 التي أثارها وزير الاتصالات بطرس حرب تبدو إضافة جديدة إلى مسلسل الفساد في وزارة الاتصالات، والذي ما يزال مجلس الوزراء عاجزاً عن مقاربته بفعّالية ومهنية، مفضلاً الغرق في النقاش السياسي والشخصي، من دون الوصول إلى أي نتيجة، كما حصل في الجلسة الأخيرة.
في مؤتمره الصحافي الذي تلى جلسة مجلس الوزراء، أعلن حرب أن «بعض الشركات كانت تبيع الـE1 في السابق، بموافقة الوزراء السابقين، إلى شركتي الخلوي بـ1200 و1800 دولار، فيما الوزارة كانت تبيع الـE1 للشركات بـ550 دولارا. واتهم الوزراء السابقين بمنع شركتي الخلوي من شراء حاجتها من الوزارة عبر «أوجيرو».
لا شك بأن خطوة تقديم «إخبار للنيابة العامة»، التي أعلن عنها حرب أنه سيقوم بها، مطلوبة وفي محلها، كون عملية الهدر قد حدثت على ما تؤكد الوقائع التي أشار حرب إليها. لكن مصدراً متابعاً يعتبر أنه طالما توجه وزير الاتصالات إلى الجهة المختصة، أي القضاء، لتبيان المسؤولية عن هذا الهدر، فإنه أخطأ في مسارعته إلى الحكم ببراءة عبد المنعم يوسف («كان يقوم بواجباته في هذا المجال») واتهامه الوزير المعني آنذاك (نقولا صحناوي) انطلاقاً من منعه شركتي الخلوي من التعامل مع أوجيرو».
«افتح الحنفية»
«افتح الحنفية» تحولت في فترة استلام وزارة الاتصالات من قبل وزراء عونيين، إلى أحد الشعارات التي كانت ترددها الوزارة في حربها التي لم تتوقف مع المدير العام للاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات ورئيس هيئة «أوجيرو» عبد المنعم يوسف، ولا سيما أيام استلامها من قبل الوزير صحناوي. وكان المقصود بهذه العبارة مطالبة يوسف بالإفراج عن السعات الدولية (E1) التي يتحكم بها، وإعطاء شركات مقدمي الخدمات (ISP) وشركتي الخلوي («ألفا» و «تاتش») حاجتهما من هذه السعات، التي من دونها يستحيل تطوير القطاع، بعدما كان يصّر على إغلاق الحنفية «في وجه من لا يخضع لمشيئته»، على ما يقول مصدر في إحدى شركات الخدمات.
مع تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في 13 حزيران 2011، تغيّر الموقف. ثمة من قرأ في خطوة يوسف فتح 10 جيغابيت على كابل «أي مي وي» تكتيكاً طبيعياً مع تغير العهد الحكومي. استبشر الجميع خيراً، قبل أن يتبين أن فتح الحنفية لم ينعكس على المشتركين الذين زادت طلباتهم بعد تخفيض أسعار الانترنت 80 بالمئة. أما الأسباب فهي عديدة. تارة بسبب عدم وجود «سيرفيرات» كافية وتارة بسبب عدم وصل «السيرفيرات» على الشبكة وطوراً لأسباب مجهولة، فكانت النتيجة الوحيدة بقاء المشتركين غير قادرين على الاستفادة من السعات التي توفرت بكثرة، إلى أن تدخّل ميقاتي شخصياً.
وصل الطلب ولم ينفّذ
إطلاق الجيل الثالث من الانترنت جعل المستخدمين يرفعون استهلاكهم بشكل كبير جداً. لم تعد شركتا الخلوي قادرتين على تلبية حاجة مشتركيهما، فطلبتا المزيد من السعات الدولية.
في وثيقة حصلت عليها «السفير»، يتبين أن شركة «ميك 2» (أم تي سي)، طلبت الحصول على 1656 خط E1 ابتداءً من تشرين الثاني 2011 وحتى تشرين الأول 2012. بعد ثلاثة أشهر، وتحديداً في 3 شباط 2012، جاء الرد بالموافقة على إعطائها 25 خطاً فقط. وإذا كانت مصادر صحناوي قد حمّلت المسؤولية كاملة لـ «أوجيرو»، لأن «الوزير لم يكن يملك أي آلية لإلزام الأخيرة تسليم السعات الدولية لطالبيها»، فإن حرب، يعتبر أن الوزير السابق هو الذي أوعز إلى شركات الخلوي بالتزود بحاجتها من الشركات الخاصة، وهي التهمة نفسها التي يسوقها يوسف ضد صحناوي، انطلاقاً من منعه شركتي الخلوي من التواصل مع المديرية العامة للاستثمار والصيانة مباشرة.
اللافت للانتباه أنه بعد أيام من طلب «أم تي سي»، وتحديداً في 5 كانون الأول 2011، راسل يوسف الشركة نفسها، طالباً منها تزويد المديرية العامة للاستثمار والصيانة التي يديرها، بطلب يتضمن «حاجة إدارتكم إلى سعات دولية إضافية لاستخدامها في خدمة الجيل الثالث، وذلك ليصار إلى تلبية طلبكم من ضمن السعات المتوفرة لدى وزارة الاتصالات». كما أشار في تلك المراسلة إلى أن «كل الطلبات المقدمة سابقاً من الشركة قد صدرت القرارات الخاصة بشأنها». وهو قول بدا غريباً على المعنيين، كونه يتعارض مع قرار تأجير الشركة 25 خطاً فقط (القرار رقم 123/1/)، في وقت سابق على مراسلة يوسف.
هنا كان التضارب واضحاً بين المراسلة وواقع عدم تلبية حاجة الشركة، والاكتفاء بتزويدها ما يعادل 1.5 في المئة من حاجتها. علماً أن قرار تأجير الـ25 خطاً، يؤكد استلام كتاب شركة «أم تي سي» الذي تطلب بموجبه 1656 خطاً، ما ينفي احتمال أن لا تكون الإدارة المعنية قد تسلمت الطلب.
وعليه، تشير شركة «ميك 2» في المراسلة المؤرخة في 30 نيسان 2014، التي تسرد فيها الظروف والعقبات التي تواجهها منذ العام 2011، أنها لجأت إلى القطاع الخاص واشترت 225 خط E1 أي ما يعادل 13.6 في المئة من حاجتها فقط.
وقد قام صحناوي حينها، على خلفية مراسلة يوسف، بتوجيه تنبيه خطي له (23 كانون الأولى 2011) «بسبب مخاطبتكم شركتي الخلوي بدون الرجوع للوزير ولا لهيئة المالكين كما ينص عليه عقدا الإدارة الموقعّان مع الشركتين المشغلتين والمصادق عليهما من مجلس الوزراء». وطلب منه الامتناع عن مخاطبة شركتي الخلوي مباشرة وأن تتم المراسلة عبر هيئة المالكين والوزير.
حرب مراسلات
بعد نحو عام ونصف تكررت الواقعة نفسها. راسل يوسف شركتي الانترنت مرة ثانية (16 أيار 2013)، معلناً أن وزارة الاتصالات لديها من السعات الدولية ما يكفي لتزويدهما بحاجتهما لتقديم خدمة الجيلين الثالث والرابع «حتى لو بلغت 500 خط E1 أو أكثر».
لكن من يعود إلى تلك الفترة، يتبين أن صحناوي اتهم يوسف قبل ذلك بهدر ما يقارب نصف مليون دولار شهرياً، إضافة إلى ربع مليون دولار خسارة لشركتي الخلوي، نتيجة الاضطرار إلى شراء السعات بأسعار أغلى من مزودين آخرين، بسبب حجبه خطوط E1.
في 14 حزيران 2013، وبعدما تلقى تنبيهاً ثانياً من صحناوي (20 أيار 2013)، راسل عبد المنعم يوسف وزير الاتصالات (ثم أعاد توجيه الرسالة نفسها إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء)، مشيراً إلى أنه «تبين لنا أنه تم إبلاغ الشركتين («الفا» و «تاتش») من قبل معالي وزير الاتصالات ومن قبل هيئة المالكين ضرورة التقيد بعدم التقدم من المديرية العامة للاستثمار والصيانة بأي طلبات بهدف الحصول على السعات الدولية». وإذ يشير يوسف إلى أنه لم يتلق أي طلب للحصول على السعات الدولية لا مباشرة من شركتي الخلوي ولا عبر هيئة المالكين (تمثل الشركتان أمام الدولة)، فقد كان لافتاً للانتباه أن المراسلة الموجهة إلى صحناوي أتت بعد يوم واحد على تقديم إحدى الشركتين طلباً للحصول على 663 خط E1 جديدا.
في الطلب المذكور إشارة إلى أنه حتى حزيران 2013 كانت الشركة قد حصلت على 415 خطاً من قبل مقدمي خدمات الانترنت، موضحة أن هذا العدد لا يشكل أكثر من 17.9 في المئة من حجم الطلب الذي وصل إلى 2319 خطاً، معتبرة أنها اضطرت إلى الحصول على الحد الأدنى من حاجتها من القطاع الخاص كي لا تتأثر خدمة الجيل الثالث التي يحصل عليها المواطنون.
بعيداً عما إذا كانت الوزارة في حينه قد ألزمت شركات الخلوي بشراء السعات الدولية من مقدمي الخدمات بأسعار باهظة، على ما يقول حرب ويوسف، أو لم تلزمها، كما تؤكد مصادر صحناوي، التي تعتبر أنه نتيجة «تسكير الحنفية» كان لا بد من اللجوء إلى بدائل كي يبقى القطاع على قيد الحياة، فإن الهدر كان حاصلاً ويفترض بالقضاء وحده أن يحدد هوية المذنب ويحاسبه.
ما هو دور شبارو؟
يفيد مصدر مطلع أن إحدى المناقصات التي أجرتها «ألفا» في حينها لاستئجار خطوط E1 فازت بها شركتا «أي دي أم» و»سوديتيل»، مناصفة. ويوضح أن «سوديتيل» مملوكة بنسبة 50 في المئة من الدولة، أضف إلى أن مدير المعلوماتية في «أوجيرو» توفيق شبارو، والمعروف بكونه اليد اليمنى ليوسف (يتم التحقيق معه في إطار قضية «غوغل كاش») هو عضو في مجلس إدارة الشركة.
حرب يطلب دعاوى باسيل ضد يوسف
وجّه وزير الاتصالات بطرس حرب رسالة إلى رئيس مجلس الوزراء يطلب منه فيها الطلب إلى الوزير جبران باسيل تزويد رئيس الحكومة أو الأمانة العامة لمجلس الوزراء بنسخ عن الدعاوى الـ 45 التي أفاد باسيل في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة أنه تقدم بها ضد المدير العام للوزارة عبد المنعم يوسف (رفض تزويد حرب بنسخ عنها) ومن بينها دعوى تزوير مستند وارد من الشركة القبرصية CYTA، وذلك خلال تولي باسيل وزارة الاتصالات.
وطلب حرب في كتابه أيضا أن يزود باسيل الرئيس سلام أو الأمانة العامة لمجلس الوزراء الجهات القضائية التي قدم الدعاوى لديها أو أرقام تسجيل هذه الدعاوى في سجلات وزارة الإتصالات ولدى أمانة سر الوزير ليصار بعدها إلى إطلاع الوزير حرب عليها تمكينا له من متابعتها حسب الأصول والأنظمة المرعية الإجراء.