لم يكد اللبنانيون أو هكذا تراءى لهم أن يفرغوا من اتّخاذ الحكومة بعض التدابير لإزالة النفايات المتراكمة منذ أكثر من سبعة أشهر في الشوارع، دون ظهور ملامح حلٍ شامل وعصري لهذه المسألة، حتى برزت أمامهم وبشكلٍ حجب الإستثمار الإعلامي لإنجاز النفايات، مسألة القمح المُسرطن وفضيحة شبكات الإنترنت غير الشرعية الموزّعة عبر محطات كاملة التجهيز في أكثر من منطقة جبلية بالإضافة إلى وجود كابل بحري غير شرعي يؤمّن هذه الخدمات أيضاً.
مسألة القمح المُسرطن وبصرف النظر عن التناقض والتطابق الواردين في تصريحات الوزراء المعنيين، هي مشكلة تمتّ إلى الأمن الغذائي الوطني وقد تؤسس إثارتها إلى إعادة النظر في آليات الإستيراد وإجراء الفحوصات والإستلام والتخزين، وهذا ما قد يشكّل إيجابية بحدّ ذاته فاللبنانيون لا يطمحون لأكثر من معالجة الخطأ بعد اكتشافه، واستدراك الخطأ قبل حصوله ليس من قدرات الإدارة السياسية التي تتولى مصالح الناس. وقد يقتصر الأثر السلبي لمسألة القمح في تحقيق بعض الأرباح أو في نتائج الإستدراك المتأخر لها وانعكاساته الصحية المحدودة.
أما مسألة شبكات الإنترنت غير الشرعية، فهي تُلقي أكثر من اتهام بأكثر من اتّجاه لأنّها تتناول البعد الإقتصادي والبعد الأمني والنهج الحوكمي برمّته، بل تطرح مسألة كفاءة السلطة السياسية وقدرتها على تقدير المخاطر ورؤيتها للصالح العام. الأجهزة المركّبة من صحون لاقطة ومتممات إلكترونية وأنظمة طاقة بديلة تدل على تشابك وتكافل في المسؤولية بين أكثر من وزارة وأكثر من جهة سياسية، وهي تطرح تساؤلات حول المعابر التي دخلت منها هذه الأجهزة، شرعيتها أو عدم شرعيتها؟ وغير الشرعية هنا تعني المعابر التي فرضتها قوى الأمر الواقع تحت مسميّات المقاومة والممانعة، كما تطرح تساؤلات حول تكامل عمل الأجهزة لجهة مراقبة بيع هذه التجهيزات وطرق استخدامها وقواعد مراقبتها. وفي هذا المجال يصبح الضرر المالي الواقع نتيجة بيع خدمات الأنترنت خارج نطاق الحق الحصري للدولة غير ذي أهمية إذا ما قورن بالتداعيات الأمنية الناتجة عن القرصنة على قواعد المعلومات لدى المؤسسات الحكومية والأمنية والمصرفية وقواعد المعلومات الشخصية أو شبكات الإتصال التي تتلقى الخدمات من هذه المصادر غير الشرعية. إنّ المجال هنا لا يسمح بالشرح التقني لطرق الدخول على الشبكات وكيفية استخدام ذلك لتوجيه فيروسات أو برامج تجسس(Spyware) نحو كافة القطاعات عبر الحسابات الشخصية وإمكانية إحداث تحويلات مالية أو سرقة معلومات. فقد كان للبنان نصيب لا بأس به من الهجمات السيبرانية منذ العام 2008 عبر اختراقات طاولت مئات من مستخدمي بطاقات الخدمات المصرفية الإلكترونية كما طاولت قواعد المعلومات الشخصية.
إنّ اكتشاف هذه الشبكات بسبب وجود تنافس بين مقدّمي خدمات الإنترنت أو لأي سبب آخر ليس بيت القصيد، فالمأزق يكمن في انكشاف هذا القطاع, الذي يُعتبر في دول العالم كافة, ركيزة من ركائز الأمن الوطني, وقد شُكّلت لأجل حمايته هيئات وطنية متخصصة تشرف على قواعد المعلومات وتتخذ الإجراءات لحمايتها. لبنان لا يزال متخلفاً عن معظم بلدان المنطقة والعالم في مجال حماية فضائه السيبراني وبشكل خاص أمن وحماية البنيّة التحتيّة الحساسة لكافة قطاعاته الحيوية (شبكات الإتصال المدنية والعسكرية، التجارية، الصحية، الإقتصادية، إلخ…) حيث تقتصر جهود حماية وتحصين هذا الفضاء على مبادرات متفرقة وغير منسّقة لجهات حكومية ومدنية مما يُبقي لبنان في حالة إنكشاف تام أمام هذه المخاطر.
إنّ الواقع القانوني للفضاء السيبراني في لبنان، برغم إقرار عدد من التشريعات، يدّل على عدم تناسب النصوص مع التطور التكنولوجي المتسارع، حيث لم تقر حتى الآن تشريعات تنظّم حدود استخدام هذه التقنيات الحديثة، وفي ضوء ترك تقدير ذلك لسلطة القاضي التقديرية فإنّ الشك يبقى قائماً حول أمن المعلومات وتدفقها وحماية الخصوصية وحماية استخدام الكمبيوتر والشبكات، وإزاء هذا الوضع كيف يمكن للقضاء اللبناني، في ضوء النقص التشريعي، البتّ بالقضية الراهنة بما يتجاوز الشق المالي كما يجب وليس من قبيل عدم الإستنكاف عن إحقاق الحق.
إنّ القطاعات كافة وفي مقدمتها الإقتصادية والأمنية إلى جانب الجامعات التي تؤهل الكادرات المتخصصة في هذا المجال مدعوة للعب دور وطني والدفع بالدولة اللبنانية لتحمّل المسؤولية والإرتقاء إلى مستوى المعايير الدولية المعتمدة لحماية قواعد المعلومات عن طريق تأسيس هيئة وطنية لحماية الفضاء السيبراني وتكليفها وضع استراتيجية وطنية تتماشى مع منظومة قانونية متطورة، بحيث تشرف هذه الهيئة على قواعد المعلومات وتنهي التشتت القائم حالياً بين الإدارات والمؤسسات اللبنانية والتقاسم الحالي لقواعد المعلومات وتؤسس لتعاون فعّال بين الجهات الحكومية وتكون مسؤولة عن مشاركة وتوقيع الدولة اللبنانية على الإتفاقات الدولية المتعلّقة بحماية الفضاء السيبراني.
إنّ هذه المسؤولية هي في صلب الممارسة المواطنية التي لم تعد سلوكاً إنتمائياً بدائياً وعفوي الطابع، بل هي بناء إجتماعي يرتكز على شبكة مصالح مشتركة وعبور إلى السياسة بمفهوم إدارة الشأن العام، وهي تفترض قناعة سلوكية بأنّ الكل معني بالشأن العام وتالياً له الحق بالمطالبة والمراقبة والمحاسبة والمشاركة واللجوء إلى مرجعية حقوقية لضمان الحقوق والواجبات والوطن من هذا المنظار هو نتيج للمواطنية بصفتها مشاركة حقوقية.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات