الدولة تسرق نفسها.. وإسرائيل تلهو بـ«داتا» اللبنانيين!
فضيحة شبكة الإنترنت: تهريب 600 ألف خط هاتفي
لم تكن المعلومات التي كشفت في لجنة الإعلام والاتصالات النيابية عن وجود معدات اتصالات غير قانونية في الجبال اللبنانية سوى رأس جبل الجليد.
وأظهر التعمق بالتحقيقات التي كانت قد بدأتها وزارة الاتصالات منذ تلقيها شكوى من شركات الانترنت الشرعية، بأن ثمة من يبيع الانترنت في لبنان بيعاً مخالفاً للقانون (25 كانون الثاني 2016)، وجود شبكة مترامية الأطراف والقدرات، تكاد تشكل شبكة رديفة لشبكة الدولة.. قادرة على منافستها والتفوق عليها في أحيان كثيرة.
وإذا كان وزير الاتصالات بطرس حرب قد أرجأ مؤتمره الصحافي المخصص للحديث عن محطات الانترنت المخالفة للقانون من اليوم إلى الغد، فقد تبين أن ما تم اكتشافه حتى الآن يفوق كل التوقعات، وهو ما أكده أيضاً رئيس لجنة الاتصالات النائب حسن فضل الله بقوله لـ«السفير» إن «القضية خطيرة وتتدحرج»، مؤكداً أنه «لا بد للدولة من أن تضع يدها على هذه الشبكة لما لها من أبعاد قانونية ومالية وأمنية». كما أعلن أنه سيدعو اللجنة إلى استكمال النقاش في الأمر في جلسة تعقد الاثنين المقبل، يفترض أن يشارك فيها وزراء الاتصالات والداخلية والدفاع، إضافة إلى مدعي عام التمييز سمير حمود والمدعي العام المالي علي ابراهيم.
آخر المعلومات تؤكد وجود أربعة معابر غير شرعية للاتصالات بقدرة هائلة تبلغ 40 جيغابيت في الثانية، أي ما يعادل ثلث السعات الدولية التي تضعها وزارة الاتصالات في الخدمة (150 جيغابيت في الثانية)، وما يعادل نصف السعات الدولية الموضوعة بتصرف شركات توزيع الانترنت (ISP)، والتي تبلغ 88.4 جيغابيت في الثانية.
ولرسم صورة واقعية لحجم الخرق، يوضح مصدر تقني أنه يوازي 600 ألف خط هاتفي (60 بالمئة من عدد المشتركين في الخط الثابت)، انطلاقاً من حساب تقني يشير إلى أن كل 2 ميغابيت في الثانية يعادلان 30 خطاً هاتفياً (الخط الهاتفي يساوي 64 كيلوبيت في الثانية، وهي السرعة التي كان يحصل عليها المشتركون عبر dial up على الخط الثابت).
الشرعية تشترك في الشبكة اللاشرعية!
وفيما يجزم مصدر مسؤول أن أخطر ما في الأمر أن ما يزيد عن 50 بالمئة من المؤسسات الرسمية تتعامل مع هذه الشركات غير القانونية، يوضح أن اشتراك الجيش اللبناني بهذه الشبكة، شجع المؤسسات الأخرى لتقدم على الخطوة نفسها، خصوصا أن الأسعار كانت رمزية، وتتضمن عروضات مغرية.
وعلى سبيل المثال، عند وصول الرئيس ميشال سليمان إلى القصر الجمهوري في 2008، سعى إلى استنساخ تجربة الجيش في إيجاد «back up» للانترنت، في حال تعطل شبكة «أوجيرو»، بحيث يضمن عدم توقف الموقع الالكتروني لرئاسة الجمهورية، على حد تعبير مصادر القصر. لذلك، فقد اشترك القصر مع إحدى الشركات غير الشرعية.
أما في مجلس النواب، فقد كان كافياً ان تصادر معدات البث غير الشرعية، بعد تحويل الملف إلى النيابة العامة المالية في 4 آذار الحالي، حتى يتوقف خادم البريد الالكتروني، إذ إن المجلس كان يعتمد اعتمادا كبيرا على الشبكة الموازية (غير الشرعية)، فيما كان اشتراكه في «أوجيرو» يقتصر على 4 ميغابيت في الثانية (طلبت دوائر المجلس مؤخراً رفع قدرة الشبكة إلى 80 ميغابيت في الثانية). كذلك أظهر التحقيق أن عدداً من الوزارات يتعامل مع الشبكات غير الشرعية، ولا سيما وزارة العدل.
المفاجأة التي أظهرتها التحقيقات الفنية كانت في هوية أصحاب هذه الشبكات، حيث تبين عودة عدد من أصحاب «شبكة الباروك» التي تم اكتشافها في العام 2009، وصدرت الأحكام بحقهم في العام 2011، إلى استئناف نشاطهم، علماً أن التهمة كانت آنذاك «إنشاء محطة في الباروك وتجهيزها بمعدات إسرائيلية والتزود بمعدات لخدمة الانترنت عبر الباروك من شركة في حيفا، واستعادة جهازين بعد تفكيكهما من المحطة واختلاس الجهازين وبيعهما».
شبكة الباروك.. تفرخ شبكات
وفي التفاصيل، فقد تبين من خلال التحقيقات التي تجريها الفرق الفنية في هيئة «أوجيرو»، بإشراف رئيس الهيئة عبد المنعم يوسف، أن المعابر غير الشرعية التي تم التأكد من وجودها بالعين المجردة والتي يمكن أن يزيد عددها مع تقدم التحقيقات، تقع في مرتفعات الضنية وفقرا وعيون السيمان والزعرور، وهي مملوكة من كل من: (هـ. ت.) صاحب شركة VIRTUAL ISP (غرّم في قضية الباروك)، (و. ح.) و(ن. ح.) صاحبا شركة HOT SPOT (حكما بالحبس في قضية الباروك)، (ع. ل.) و(ر. س.)، وهؤلاء جميعا يملكون، إضافة إلى المحطات، شركات توزيع في أكثر من منطقة ويتعاملون مع ثماني شركات توزيع أخرى.
وبالرغم من أن تاريخ بعض الشركات يعود إلى العام 2002 كشركة «هوت سبوت»، إلا أن هذه الشركات شهدت نقلة نوعية في طريقة عملها بعد العام 2006، حيث اشترت أجهزة متطورة (كيف دخلت ومن أدخلها إلى لبنان ومن سمح بتثبيتها في أعالي الجبال ومن أمّن ويؤمن لها الحماية ومن سمح بتوزيع خدماتها في مختلف المناطق)، وعمدت إلى استيراد السعات الدولية لاسلكياً من قبرص. إلا أن توسع الشبكة، بحسب مصدر متابع للتحقيقات، جاء بعيد إعلان وزارة الاتصالات عن خطتها لإيصال الألياف الضوئية إلى المنازل مع حلول العام 2020، بحيث استبقت هذه الشركات تحسن خدمات الوزارة، لتتمكن من تثبيت حصتها في السوق، من خلال توسيع شبكة أعمالها ووصولها إلى كل المناطق عن طريق استعمال أعمدة الكهرباء الرسمية وعن طريق تثبيت محطات توسط (Routers).
600 مليون دولار خسائر خلال 10 سنوات
وتشرح مصادر فنية مطلعة الفارق بين طريقة عمل الشبكة اللبنانية الرسمية والشبكة غير الشرعية، فتشير إلى أن الأولى تستقدم السعات الدولية عبر الكابلات البحرية إلى معبرين للانترنت (gateway) يقعان في سنترالي رأس بيروت والجديدة، حيث يصار من خلالهما إلى توزيع خدمات الانترنت على السنترالات في مختلف المناطق، ثم إلى المشتركين، بما يؤدي عملياً إلى تحديد الكميات المستهلكة بدقة وحماية موارد الدولة، التي تملك حصرية ملكية البنية التحتية لقطاع الاتصالات.
في المقابل، فإن المعابر الأربعة غير الشرعية التي اكتشفت مؤخراً، تتخطى كل هذه الآلية، فلا تشتري السعات الدولية من الحكومة اللبنانية، بل من دول أخرى (تركيا وقبرص) ثم تبيعها في السوق اللبنانية، من دون المرور بالشبكة الرسمية، وهو ما يعني من ناحية تقليص واردات الدولة ومن ناحية أخرى التفلت من الرقابة الرسمية.
قبل الولوج إلى المخاطر الأمنية التي بدأت تظهر معالمها، فإن التحقيق التقني الذي تجريه «أوجيرو» أظهر ضخامة الضرر الاقتصادي، إذ يقدر مسؤول بارز في «أوجيرو» قيمة الأرباح غير المحققة (الخسائر) بخمسة ملايين دولار شهرياً (60 مليون دولار سنويا)، تذهب إلى جيوب الشركات التي تبيع الانترنت غير الشرعي، والتي ليست بالضرورة غير شرعية، إذ ثمة بعض الشركات المرخصة، التي تعمد إلى شراء سعات دولية بسيطة من «أوجيرو» ثم تغطي حاجتها الفعلية عبر السعات الدولة غير الشرعية (تبلغ قيمة الخسائر خلال عشر سنوات حوالي 600 مليون دولار).
أما في الشق الأمني، فقد تردد من مصادر التحقيق أن الشركة التي يتم شراء السعات الدولية منها في قبرص هي شركة لا جدال في علاقتها بإسرائيل، ما يفتح الباب واسعاً أمام انتقال كل «داتا» المشتركين اللبنانيين إلى الأجهزة الإسرائيلية.
وحسب التحقيقات، فإن أصحاب الشركات غير المرخصة مدعومون من جهات نافذة تسعى إلى إعاقة التحقيق وتضليله وكذلك لإعاقة مساعي تفكيك الشبكات. وقد سجلت مؤخراً حادثتان تعبران عن إصرار المعنيين في هذه الشركات على المضي في خرق القوانين، إذ أقدمت جهة سياسية على قطع الطريق أمام الفرق الفنية الخاصة بـ «أوجيرو» والتي تؤازرها قوى أمنية بناءً على إشارة النيابة العامة المالية، بالقرب من إحدى المحطات في عيون السيمان. كما اتصلت شخصية سياسية بمخفر المنطقة، مهددة ومتوعدة.
وسعى أصحاب المعدات المصادرة إلى تضليل التحقيق من خلال طلب استعادة هذه المعدات، بحجة التوجه إلى إجراء تسوية مع وزارة الاتصالات، وعلمت «السفير» أنه تم التجاوب مع هذا الطلب، قبل أن تصادر الأجهرة بعد يوم واحد، انطلاقاً من أن إنشاء المعابر الدولية هو حق حصري للدولة، ولا يمكن بالتالي إجراء أي تسوية بشأنه مع مرتكبي جرم التعدي على المال العام والمرفق العام والسيادة.