Site icon IMLebanon

الأزمة تَهري “حبة” الإنترنت… وإسقاطها من “عنقود” الدعم بات وشيكاً

 

نزعت عنه صيت أعلى كلفة و”ألبسته” المزيد من طبقات سوء الخدمة

 

يفرض الانهيار النقدي منذ بدء الأزمة إيقاعه على مختلف القطاعات، واضعاً إياها أمام حل من اثنين: إما استمرار الدعم، إستنزاف الاحتياطي وفقدان الخدمة، وإما التسعير على سعر الصرف الحقيقي. في النهاية، “لا يصح إلا الصحيح”، والغلبة تُكتب للخيار الثاني. إنما دائماً بعد فوات الأوان، ومع وصول القطاعات إلى شفير الافلاس والاقفال.

 

سيناريو الدعم في مرحلته الأخيرة على المواد الغذائية، المحروقات والأدوية، يتكرر اليوم مع قطاع الانترنت. فتسعيرة هذه الخدمة ما زالت على سعر الصرف الرسمي 1515، فيما كل التكاليف، باستثناء شراء الانترنت من الخارج المدعوم من “المركزي” على سعر الصرف الرسمي، تدفع إما على سعر صرف السوق، وإما على سعر منصة صيرفة، الذي ارتفع مؤخراً إلى 8000 ليرة. الأمر الذي لا يؤثر على نوعية الخدمة فقط، إنما يعرضها للانقطاع الكلي.

 

رداءة الخدمات

 

خدمة الانترنت محتكرة بالكامل من قبل الدولة وهي تؤمن للمستهلكين عبر ثلاث قنوات رئيسية: أوجيرو، شركات التوزيع الخاصة التي تشتري “الميغا” من أوجيرو، وخدمة 3 و4 جي بواسطة شركات الخلوي. على صعيد شركات الخلوي وأوجيرو، لم تعد المبالغ المجباة تكفي لتأمين أسعار المحروقات للمولدات وأجور العاملين. حيث تنفق الأخيرة على سبيل المثال “مليار ليرة يومياً لشراء المازوت وتشغيل الشبكة”، بحسب تصريح مديرها العام عماد كريدية. أمّا شركات توزيع الانترنت، فهي وإن اشترت “الميغا” على السعر المدعوم من أوجيرو وهو 1515، إلا انها تدفع بقية النفقات على سعر صرف السوق. وبحسب رئيس تجمّع شركات مزودي الانترنت روبير صعب فان “نسبة التزوّد بالانترنت على السعر الرسمي تشكل فقط 25 في المئة فيما بقية التكاليف تشكل 75 في المئة”. وهي تتوزع على الشكل التالي:

 

– أكلاف الصيانة، تشغيل المحطات وتأمين بدائل الكهرباء من بطاريات وups تدفع على سعر صرف السوق الموازية.

 

– الرخص والحقوق تدفع باليورو.

 

– عقود تأمين الحماية من الهجمات السيبرانية تدفع بالدولار النقدي للخارج.

 

– الايجارات وأكلاف المحامين والمدققين والمحاسبين ما زالت تدفع لغاية الآن على سعر 3900 ليرة. إنما مع مطلع العام القادم سوف يتحول جزء منها إلى “الفريش” دولار وجزء آخر على سعر 8000 ليرة.

 

أمام هذا الواقع فان التجمع الذي لم يتفق بعد على رفع التسعيرة، سيكون ملزماً على ذلك مطلع العام القادم. مع العلم أن هناك بعض الشركات التي رفعت أسعارها بما يقارب 20 في المئة، معتمدة تسعيرة 1800 ليرة أو حتى 2000 أو 2500 ليرة للدولار. لكن “هذا القرار ما زال فردياً”، يقول صعب. و”التجمع يعدّ آلية جديدة للتسعير مقسمة بحسب الكلفة. بمعنى، إذا بقيت تسعيرة الدولة 1515 سوف يتم احتساب 25 في المئة من الفاتورة على السعر الرسمي، والـ75 في المئة الباقية سيحتسب جزء منها على سعر 8000 ليرة والجزء الآخر على سعر السوق. وإلا فان قسماً كبيراً من الشركات سيقفل نهائياً”، برأي صعب. و”هذا ما سيلحق مشكلة كبيرة بالقطاع. ولا سيما إن صحت التوقعات باستئناف العام الدراسي بعد 9 كانون الثاني 2022 افتراضياً وعادت الدولة إلى التشديد في موضوع الاقفال، مع ما يرافق ذلك من تكثيف العمل من المنازل”.

 

إقفال الشركات

 

يضم “التجمع” 90 شركة، تقدم خدمات الانترنت لما بين 750 إلى 820 ألف مشترك، وهي تنشط تحديداً في الاماكن التي لا توجد فيها خطوط هاتف، أو خدمة DSL رديئة. وبحسب صعب فان “تعطل سنترالات أوجيرو والانقطاع الطويل لكهرباء الدولة وتقنين أصحاب الاشتراكات يدفع الكثير من الشركات العاجزة عن تأمين البديل إلى الاقفال. وبالتالي تعطل الخدمة في الكثير من الاماكن. وهذه الحالة سوف تشتد مطلع العام القادم خصوصاً إذا ما بقيت الامور على ما هي عليه”.

 

العلّة في الاحتكار

 

هذه العوامل “تجعل من الابقاء على تعرفة 1500 ليرة للدولار، وكأنها ورقة نعوة لقطاع الانترنت من جهة، ولأعمال 80 في المئة من المواطنين من جهة ثانية”، بحسب الباحث الاقتصادي والقانوني في “المعهد اللبناني لدراسات السوق”، كارابيد فكراجيان، “حيث لا يقتصر استخدام الانترنت على شركات البرمجة والمعلوماتية، إنما يتخطاها إلى القطاع المصرفي والمالي والانتاجي والخدماتي… وصولاً حتى خدمة الدليفري”.

 

تاريخياً عُرف عن الانترنت في لبنان أنه “أسوأ خدمة، لأعلى تعرفة”. فـ”احتكار الدولة التاريخي للقطاع أقفل الباب أمام المنافسة وتدفق الاستثمارات، اللذين من شأنهما تخفيض الكلفة. ولم تكن الدولة مستعدة للتفريط ولو بجزء من القطاع الذي “يبيض ذهباً” ويحقق مداخيل هائلة للخزينة. ومع انفجار الأزمة وتسارع تطوراتها ساءت الخدمة أكثر وتحول القطاع من مدرٍ للمداخيل إلى متسول للدعم لابقائه على قيد الحياة بالحد الأدنى. و”مرة جديدة كانت معالجة المشكلة بالتجاهل”، يقول فكراجيان، “مع العلم أن الفرق الهائل بين تسعيرة الاشتراكات وما يدفع من تكاليف، تتحمله الدولة بشكل أساسي بوصفها المحتكر للخدمة”. حتى وصلنا اليوم إلى حل من إثنين إما الاستمرار بالدعم المشوه الذي يستنزف الاحتياطي ولا يوفر الخدمة الجيدة، وإما قطع الانترنت، بسيناريو مشابه تماماً للتقنين ومن بعده الانقطاع في ما خص المحروقات والأدوية والمواد الغذائية عندما أصبح من المستحيل الاستمرار بدعمها.

 

 

 

التصحيح قبل فوات الأوان

 

المشكلة أن قطاع الانترنت أقل مرونة من بقية القطاعات المدعومة. وانقطاعه يعني توقف العمل كلياً في ظل استحالة توفير البدائل. وهو بحسب فكراجيان الأكثر نمواً، إذ ارتفعت مساهمته بالناتج من 300 مليون دولار في العام 2014 إلى مليار دولار هذا العام. وكل المطلوب للمحافظة على ديمومته تعديل التسعيرة قبل فوات الأوان، وبما يضمن عدم انقطاع الخدمة وتعطيل عشرات آلاف المصالح. والمؤسف بحسب فكراجيان أن “تعديل التسعيرة أمر حتمي إن لم يكن غداً، فـ”بعده أكيد”. فلماذا التأخير إذاً، واستنزاف الإحتياطي من جهة، ومصالح المواطنين من جهة ثانية. ألم نتعلم من تجربة دعم المحروقات والغذاء والأدوية؟! مع العلم، أن فتح القطاع وتشجيع المنافسة، بعد عقلنة التسعيرة واعتماد التقنيات الجديدة، يخفض الكلفة التي يتحملها المواطن آنياً، ويحد من ارتفاع الاسعار بشكل مواز مع ارتفاع سعر صرف الدولار.

 

وعليه فان المطلوب، من وجهة نظر فكراجيان، “تحرير السعر وفتح القطاع أمام المنافسة. ما يسمح بالبحث عن بدائل مربحة ومنتجة أكثر، ومنخفضة الكلفة في الوقت عينه”. وعلى الرغم من عدم تقديم البدائل بعد للمواطنين وتحديداً البطاقة التمويلية، إلا أن تحرير السعر والمحافظة على الخدمة يبقيان أفضل من استمرار الدعم وفقدانها من الناحية الاقتصادية. خصوصاً أن غياب الانترنت يعرض مصالح أكثرية المواطنين إلى الشلل التام.