نجحت ايران حتى الآن في تنفيذ خطة وضع لبنان على طريق الفراغ الشامل وان على مراحل. ولم تنفع نداءات الفاتيكان ولا البطاركة والمطارنة ولا دعوات الدول الشقيقة والصديقة في اخراجه من أزمة الانتخابات الرئاسية، اذ جعلت ايران من استمرار ترشيح العماد عون وسيلة لتحقيق هدفها وربطت تأمين نصاب أي جلسة بانتخاب أحد المرشحين عون وجعجع لإبقاء أبواب الفراغ مفتوحة بحيث لا تقفل إلا إذا قبضت ايران الثمن السياسي الذي تريد في الملف النووي وعند تقاسم النفوذ في المنطقة.
ونجحت ايران أيضاً في حصر الترشح للانتخابات الرئاسية بعون وجعجع لأنها تعلم علم اليقين أن نواب 8 آذار لن ينتخبوا جعجع ونواب 14 آذار لن ينتخبوا عون فتبقى جلسات الانتخاب تدور في حلقة مفرغة، وهذا ما حصل. وللبقاء فيها اقترح العماد عون اجراء استفتاء شعبي على الرئاسة لمعرفة الأقوى شعبياً بين المرشحين كي ينتخبه مجلس النواب، الذي لا يعترف عون بشرعيته بعد التمديد له مرتين ثم اقترح اجراء استطلاع رأي حول من هو الأقوى بين المرشحين الموارنة، عندما لم يؤخذ باقتراحه اجراء انتخابات نيابية ينبثق منها مجلس شرعي ينتخب رئيساً للجمهورية. وعندما لم يؤخذ بأي من هذه الاقتراحات دعا عون الى الفيدرالية، كنظام جديد للبنان بديلاً من الطائف، ولم تعترض ايران ولا حزب الله على اي من هذه الاقتراحات لأنها تبرر استمرار ازمة الانتخابات الرئاسية ولان البحث فيها يحتاج الى وقت تحتاج اليه ايران لتقول كلمتها في الرئاسة اللبنانية. وآخر ما اقترحه العماد عون وقد لا يكون الأخير انتخاب رئيس توفيقي وليس توافقياً لأن التوفيقي، بحسب رأيه، هو القادر بما يمثل على تحقيق الوفاق الشامل بين الزعماء اللبنانيين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم ومذاهبهم في حين أن مَن يصير التوافق عليه رئيساً يتوزع حصصاً بين مَنْ توصلوا الى توافق عليه فيصبح فاقد الارادة. لكن العماد عون نسي أو تناسى، وهو يطرح هذا الاقتراح الجديد وربما عن غير اقتناع، بل لمجرد تقطيع الوقت المطلوب الذي تحتاج اليه ايران لتقول كلمتها، أن الرئيس الوفاقي يحتاج أيضاً الى توافق بين القوى السياسية الاساسية في البلاد وهو توافق يصعب التوصل اليه بدليل أن بكركي لم تستطع تحقيق الوفاق بين الاقطاب الموارنة الأربعة ليكون واحد منهم مرشحاً للرئاسة ولا استطاعت جعلهم يلتزمون حضور الجلسة لانتخاب رئيس من بينهم بحت فيفوز من ينال أصوات الأكثرية النيابية المطلوبة لأن عون وفرنجيه لم يلتزما حضور الجلسة تعطيلاً لنصابها، وخوفاً من أن تنتخب الأكثرية مرشحاً مستقلاً ومن غير هؤلاء الاقطاب، فكان التعطيل المستمر الذي تريده ايران. ومعها “حزب الله” وحليف الحزب العماد عون، ليس حباً بالتعطيل انما حباً بوصوله الى قصر بعبدا الذي يشتاق اليه ولم يخرج منه إلا بعد ضربة عسكرية سورية.
وهب ان ايران وافقت على انتخاب مرشح وفاقي كما اقترح العماد عون وصار الاتفاق عليه. فلأن لايران شرطاً عليه وهو ان يكون مع سلاح “حزب الله” ما دام لهذا السلاح وظيفة في الداخل وفي الخارج، وهو ما يرفضه الفريق الآخر باعتبار أن لا سبيل الى قيام دولة قويّة قادرة على بسط سلطتها وسيادتها على أراضيها مع وجود سلاح غير سلاحها وسلطة غير سلطتها.
لذلك فلا اتفاق على مرشح توفيقي، كما يطلب عون وعلى تسميته الا بعقد مؤتمر بـ”دوحة” جديد لا وقت للدول المنشغلة بنفسها للبحث فيه، ما يجعل الخروج من أزمة الانتخابات الرئاسية يضع لبنان بين خيارين.
الأول: انتظار توصل ايران الى اتفاق مع أميركا ليس على الملف النووي فقط، انما على تقاسم مناطق النفوذ في المنطقة، لمعرفة هل يكون لبنان من منطقة النفوذ الايراني أم من منطقة نفوذ سواها أم يصير اتفاق على ابقائه خارج مناطق نفوذ اي دولة، فتبدأ عندئذ مسيرة الحياد التي حدد “اعلان بعبدا” بنودها وهو حياد لا تقبل به ايران إلا اذا نالت الحصة التي تريد في المنطقة ورفعت عنها العقوبات كاملة ولم يعد لسلاح “حزب الله” وظيفة، وتقوم عندئذ الدولة اللبنانية القوية التي لا دولة سواها.
الثاني: أن يحلّ “روح القدس” على رؤوس الزعماء اللبنانيين ولا سيما المسيحيين منهم فيقررون حضور الجلسة لانتخاب الرئيس المناسب للظرف المناسب حتى ولو كان رئيس ادارة أزمة او ادارة التوازنات في لبنان لأن استمرار الفراغ أخطر على لبنان من عدم وجود أي رئيس قوياً كان أو ضعيفاً وهو فراغ يهدد بالزوال. وقد يكون هذا الخيار هو الأفضل من اي خيار آخر، خصوصاً اذا تعذر التوصل الى اتفاق بين ايران وأميركا في المدى القريب، لا على البرنامج النووي ولا على تقاسم مناطق النفوذ في المنطقة، والا يعود لبنان في غياب الاتفاق على انتخاب رئيس ساحة مفتوحة لصراعات الآخرين وحروبهم، وهو ما لم يعد في قدرة لبنان واللبنانيين على تحمله.