لنحو عشرين دقيقة فقط حَضر رئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي جان فهد الاجتماع الذي تداعى إليه قضاة لبنان في محكمة التمييز في قصر العدل أمس، بعد حركة الاضراب التحذيري إعتراضاً على ما تضمّنه مشروع الموازنة من بنود تمسّ حقوقهم ومكتسباتهم المالية مباشرة. والنتيجة: الاستمرار في الاعتكاف، مع التمسّك باستقلالية القضاء، ورفض «استتباع القضاة للسلطة السياسية والمسّ بمكتسباتهم وحقوقهم المالية، والمطالبة بإدراج نص صريح يستثني السلطة القضائية من بنود الموازنة»!
غالبية القضاة الذين حضروا الاجتماع وناهز عددهم أكثر من 250 هم من المنتسبين الى نادي القضاة الذي يرفع، منذ إنشائه قبل نحو عام، لواء الدفاع عن حقوقهم، فيما يشير متابعون الى أن عدداً كبيراً من القضاة لم يتمكن من الحضور لكنه مؤيّد لخطوة الاعتكاف، ما يعني أن أكثر من نصف قضاة لبنان من أصل نحو 550 هم على الموجة نفسها من التصعيد. مع العلم أن حضور القاضي فهد كان بمبادرة شخصية ولم يكن مدعواً، كما الاجتماع الأول الجمعة الماضي.
ويقول قضاة شاركوا في الاجتماع ان القاضي فهد لم يطلب منهم صراحة وقف الاعتكاف الذي أصرّوا عليه من خلال البيان الصادر أمس، لكن مقاربته للموضوع أوحَت بذلك. ويؤكدون أن «فهد أكد لهم أن هناك جهوداً تبذل ووعوداً جدّية بعدم المسّ بحقوق القضاة». واشار، انطلاقاً من الاجتماع الذي جمعه مع رئيس الجمهورية الثلثاء الفائت على رأس وفد قضائي، الى أن هناك مساعي ايجابية بالتزامن مع فتح حوار مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، يأمل في أن تؤدي الى إنهاء الاعتكاف، وشدد على أن «الرئيس عون من المتمسّكين باستقلالية القضاء».
ويؤكد القضاة المجتمعون: «إن عدم اقتناعنا بالمعطيات التي وضعنا القاضي فهد في أجوائها هو الأمر الذي دفعنا الى الاستمرار في الاعتكاف، مع العلم أنه كان واضحاً أن هناك مواداً ستعدّل في الموازنة وأخرى ستلغى، وأن هناك إجراءات ستطاول حكماً مكتسبات القضاة من خلال الاقتطاع من مساهمات صندوق تعاضد القضاة. وبالنتيجة فإن التطمينات لم تكن كافية، خصوصاً أن السلطة التنفيذية تُمعن في تجاوز صلاحياتها والمسّ بالسلطة القضائية من دون العودة الى مجلس القضاء الأعلى، واليوم يحصل إعتداء صريح على حقوق القاضي ومكتسباته المالية، وبالتالي ليس هناك ثقة بالسلطة السياسية نفسها التي تطلق وعوداً تذهب أدراج الرياح».
مجموعات «الواتساب» التي باتت المحرّك الأساس لـ»انتفاضة» القضاة لم تحدّد موعداً لنهاية الاعتكاف الذي يرفضه مجلس القضاء الاعلى في المطلق، أو خريطة طريق لما بعد الاجتماع، التي ستُحدّد، وفق المشاركين فيه، بناء على ما سيتمّ تبنّيه أو عدم تبنّيه في مشروع الموازنة، ولذلك أبقى القضاة اجتماعاتهم مفتوحة «حتى تحقيق المطالب».
عملياً، تبدو «الانتفاضة» القضائية اليوم، وفق المصادر، إستكمالاً لمسار بدأ منذ العام 2017 للمطالبة بتحرّر السلطة القضائية من سطوة السلطة السياسية وتكريس هذا الواقع من خلال قانون يقرّ في مجلس النواب، حيث ترى مصادر قضائية أن ما يحصل هو نتاج طبيعي لسلوك السلطة الحاكمة مع سلطة قضائية يفترض انها مستقلة عنها، في وقت لا يؤدي مجلس القضاء الاعلى الدور المطلوب منه في هذه «المعركة».
ومن شأن البنود الواردة في مشروع الموازنة في صيغتها التي قدّمت الى مجلس الوزراء شطب جزء من موارد صندوق التعاضد (متأتٍّ بجزء منه من غرامات السير) إضافة الى خفض مساهمات الدولة في الصندوق، ما يفقد القضاة، في رأيهم، جزءاً كبيراً من مظلة الأمان الاجتماعي والاستقرار المالي.
ففي الفصل الثالث تحت عنوان «التعديلات الضريبية»، تشير المادة 15 منه الى الغاء المادتين 401 و402 من القانون 243 / 2012 وتعديلاته (قانون السير الجديد) حيث يُستعاض عن نص المادة 401 بالنص الآتي: «بصورة استثنائية، وخلافاً لأي نص آخر، تعتبر حصيلة الغرامات الناتجة عن مخالفات السير المستوفاة بموجب طوابع مالية أو من الأحكام القضائية، حقاً عائداً بكامله وبتمامه لمصلحة الخزينة العامة»، مع العلم أن نسبة 30% من غرامات السير المحصلة من الأحكام القضائية تذهب لمصلحة صندوق تعاضد القضاة، والتي تدخل مليارات الليرات سنوياً الى «صندوق القضاة» وتصرف ضمن موازنة التقديمات الممنوحة لهم، إضافة الى التوجّه في خفض مساهمات الدولة في الصندوق التي تُشكل نسبة لا تتعدى 10% من موارده، مع العلم ان الاعتمادات المرصودة لوزارة العدل ضمن مشروع الموازنة تقدر بـ 116,688,933 مليار ليرة وهي من ضمن الموازنات الاقل والتي لا تتجاوز 1% من موازنة الدولة. وستكون هذه الموازنة محط نقاش مع موازنات وزارات أخرى على طاولة مجلس الوزراء غداً.
ويتساءل أحد القضاة المشاركين في الاجتماع: «هل هكذا تحصّن الحكومة التي ترفع لواء مكافحة الفساد في القضاء والادارات والمؤسسات العامة القضاة، من خلال حرمانهم مكتسباتهم وضرب أمنهم الاجتماعي؟»، مطالباً بضرورة «احترام المادة 5 من قانون تنظيم القضاء العدلي التي تنص على استقلالية القضاء»، ومحذّراً بالنيابة عن معظم قضاة لبنان «من جعل الاعتكاف شاملاً ليشمل حتى حالات الضرورة التي لا تتحمّل التأجيل كجلسات الموقوفين، في حال لم تؤمّن الحكومة في مشروع الموازنة الحقوق المعنوية والمادية للقاضي».