كل شيء يتبدل ويتراجع ويضعف في لبنان إلا شعبية الزعماء، فلا يخطئن احد التقدير والحساب لهذه الجهة. وبصرف النظر عن مسألة الاحجام والأوزان والانتشار العمودي والأفقي لشوارع الزعامات والتيارات والأحزاب، قد يكون العامل الأكثر مدعاة للاهتمام في الاستجابة البديهية للشارع العوني، التي ما كان يجب التشكيك فيها في التقديرات الجادة، في تحركه الناشئ، انه لا يبالي بنقطة انفصام اساسية جداً بين عنوان عصيان حقيقي على النظام وتحصن مستمر في حضن النظام نفسه. بالمعنى الطبيعي والمبسط يمكن زعيم التيار الوطني الحر العماد ميشال عون ان يسدد رصاصة الرحمة الى الحكومة بسحب وزرائه من الحكومة لأن ما سرى على الحكومة الاولى للرئيس فؤاد السنيورة عقب استقالة الوزراء الشيعة منها واستمرت بعدها طويلاً لم يعد ممكناً استعادته في الظروف الحالية. غير ان المفارقة التي ترتسم مع الازمة الطالعة تتمثل في “ثورة” عونية تلامس في اتجاهاتها وعناوينها الخطابية وتعبئتها الشعبية حدوداً انقلابية، فيما هي لا تزال منضبطة تحت سقوف النظام والحسابات السياسية التحالفية للفريق الثائر الذي يستبطن ازدواجية في لعنة الحكومة والنظام اللذين هو جزء من تركيبتهما ولا يبارحهما. ثمة رمزية صارخة شكلية في هذه الازدواجية تبرز مثلاً مع تسخير وزارة الخارجية لاجتماع غرفة عمليات وزارية للفريق الحزبي والسياسي الذي يدير عملية المواجهة داخل الحكومة عشية مجلس الوزراء. ثورة على الحكومة من عقر دارها تتهددها بالزعزعة ولكنها تحاذر بلوغ المحظور تماماً كما يجري تحشيد الشارع بعناوين تشيطن الخصم مجدداً ولكن مع التزام محاذرة الطلاق معه.
ماذا بعد هذا إذاً؟
نصف حالة انقلابية عالقة ونصف حالة نظامية صامدة ببقاياها المتداعية. نحن نتجه قدماً الى حالة فوضوية عارمة لا أكثر ولا أقل ولو توصل مجلس الوزراء الى احتواء مرحلي موقت للازمة بدليل افتعال صدام بين المتظاهرين والقوى الامنية والعسكرية. إنه توازن سلبي مطلق في لحظة اقليمية شديدة الالتباس والغموض تطل على التحول النووي الكبير الذي لا يترك اي مجال للشك في ان أياً من القوى الاقليمية القابضة على المصير اللبناني ستكون متساهلة الآن حيال اي تحول جدي في لبنان يمكن ان يسجل انتصاراً أو انكساراً لأي من هذه القوى. للقوى اللبنانية عموماً والعماد عون خصوصاً مراس طويل مع ملابسات توقيت التحولات الداخلية على ساعة التحولات الخارجية وأكلافها وموازينها ونتائجها. وإذا كان من غير الجائز التسرع في اطلاق الأحكام المسبقة على التحرك “الثائر” قبل استنفاده، فان لوحة الوقائع والمواقع والموازين الراهنة لا تبقي مجالاً للشك في ان أسرع النتائج المهرولة إلينا هي في الحد الادنى الفوضى الحكومية والسياسية والدستورية التي ستعلق لبنان برمته على صورتها المجهولة الصاعدة.