Site icon IMLebanon

ما يُطاق وما لا يُطاق في السياسة

 

نادرة تماماً هي الأوضاع التي لا يكون فيها أمام جماعات وفئات وشرائح ومجتمعات ما تخسره. دائماً، ثمة أشياء قد تكون عرضة لأن تخسرها سواء اذا تحرّكت لنَيل أشياء تعتبرها أوْلى بأن تؤخذ أو أقنعت نفسك بالحفاظ على ما في متناول يديك. مقولة انه “ليس لديك شيء تخسره” كثيراً ما تكون مضللة، يمكن أن تكون مفيدة لإثارة الحماسة والحثّ على العزم، لكنها تُخفي دائماً أشياء عديدة يُحاذَر أن تكون بصدد خسارتها بالفعل.

 

للّبنانيين اليوم، لكل فئة وشريحة منهم، لكل طائفة ولكل طبقة، أشياء عديدة وحيوية وأساسية يُحاذَر بأن تخسرها. الخسارات تتهدد كل فئة بشكل يختلف كمّاً ونوعاً وحدّة عن غيرها من الفئات، مثلما أن مغبّة الخسارة يمكن أن تقترن بفائض شراهة هنا، وبفائض تظلّم هناك، ناهيك عن اقترانها بالتغلّب الفائض. في لبنان حالياً مكابرتان. المكابرة المشتركة بتفاوت بين الجميع، بأنه لم يعد ثمة شيء نخسره. بلى ثمة الكثير الذي يمكن ان نخسره، وثمة ما يمكن ان يخسره كل رهط أيضاً. والمكابرة الخاصة بمن يشعر بأن لديه أسباب التغلّب والقوة، بأنه وصل في التضحيات بالغالي والنفيس مبلغاً، بحيث صار عصيّاً على كل خسارة، على أي خسارة، وماضٍ لا محالة من فوز الى فوز.

 

والحال ان هذا النوع من المكابرة يُدخلنا في المقلب الثاني من المعضلة: صحيح، دائماً لديك شيء يحاذر من ان تخسره، وينبغي فهم طريقة تصرفك بفهم ان لديك اشياء تعمل كي لا تخسرها، لكن هناك في الوقت نفسه، بالتوازي، او بالتقاطع، حالات “لا تعود تُطاق”، حالات تقوّض حرصك بأن لا تخسر ما بين يديك من عناصر. “الما لا يُطاق” هنا هو ما يجعلك غير قادر على ربط سلوكك وموقفك بأولوية الحفاظ على ما في حوزتك. السياسة هي ان تعي عملياً هذا التناوب الضروري والمرهق والصعب، بين اشياء ثمة خطر بأن تخسرها ان لم تُدافع عنها بالشكل النافع والمُجدي، وبين حالات لا تطاق، يصير الدفاع فيها عن حرية وجودك هو الأَوْلى.

 

تماماً مثلما ان لكل فئة ما قد تخسره مرة اذا هي تطلّعت للمزيد ومرة ان هي اكتفت بما عندها، فإنه ما من فئة في العمران البشري إلا ويمكن ان تندفع في شروط بعينها، في لحظة بعينها، الى أحضان “الما لا يُطاق”. وهذا خَبِره قسم أساسي من اللبنانيين في خريف 2004. كانت وطأة الوصاية السورية مرهقة ومذلّة ومدمّرة للبلد طيلة التسعينيات، لكنها عندما احتاجت الى هذا المسلك النافر، غير المكتفي بإرسال “كلمة سر” تمديدية قسرية للنواب، بل التبجح بالإرغام والإمعان في الغِيّ دون أي التباس، صرنا الى وضع “لا يُطاق”. ليس هناك وصفة مسبقة لتحديد متى تتحول وطأة ثقيلة الى وضع “لا يُطاق”، لكن الوضع الذي لا يُطاق هو، تعريفاً، ما لا يمكن الرجعة بعده الى ما سبقه، بأي حال من الأحوال.

 

في الأيام الماضية، عاد هذا الشعور بأن هناك “ما لا يُطاق” تحمّله، ليجثم على صدور قسم كبير من اللبنانيين، وبشكل لا يمكن لخطابات الساسة التعبير عنه بالكامل، وإنما في أحسن الأحوال محاكاته، ملاقاته، التقرّب منه.

 

“الما لا يُطاق”، في الوقت الحالي، هو نتيجة للتداخل الحاصل بين منطق الغلبة، منطق فائض القوة، وبين منطق الخروج على الدستور، وإدارة الظهر للقانون الدستوري، الذي انجرّت اليه اطراف عديدة، وليس فقط جماعة منطق القوة. في البدء، كان يجري الاكتفاء بالقول بما معناه ان الديموقراطية “التوافقية” تحدّ من الاساليب المؤسساتية البحت للتداول على السلطة، وصناعة القرار، وتجعل مساحة التداول في المسائل أكثر رحابة، فلا يُصار الى حسم كل شيء باللجوء الى اللعبة المؤسساتية وحدها، وخصوصاً بالنسبة الى القضايا المصيرية. بعد ذلك انتقلنا الى مسخ التوافقية: صارت القضايا المصيرية غير مُحالة على التوافق، بل من حصرية الفئة المتغلّبة، أما القضايا “الاعتيادية” فصارت تحتاج في كل شاردة وواردة لتأمين قاعدة التوافق التام حولها، وإلا دوام التعطيل والتفريغ، يضاف اليهما التهويل. بدلاً من الاكتفاء بجعل التوافقية بمثابة “فيلتر” للعبة المؤسسات، جرى اعتبارها بديلاً كاملاً يقيناً من لعبة المؤسسات، ومن أي صلة تجمعنا بمفردات الديموقراطية البرلمانية وآلياتها في تداول السلطة والفصل بين السلطات وفي التحديد الوظيفي لدور كل من الموالاة والمعارضة. انبنى هذا ايضاً على تلفيق مفهوم جديد عن “العُرف”. من منظار القانون الدولي، العُرف له سمة دستورية حين يكون عرفاً مزمناً، دأبت عليه أجيال، أو عُرف محدد بالتوافق العلني الواعي بين الجميع. ليس هناك عُرف دستوري يرتجل ارتجالاً، في معرض تفاوض بين فريقين سياسيين على الحصة، او يفرض نفسه بمجرد مطالبة فريق بأن تعتمد حالة محدودة في الزمان والمكان بالماضي كحالة مستدامة، ترسم “عُرفاً”.

 

“ما لا يُطاق” اليوم ليس منطق القوة والتغلّب فقط، بل تداخله مع منطق تفريخ الاعراف غير العرفية وغير الدستورية، واقتران كل هذا بعقلية تعتبر انها كلية القدرة، بحيث انها لو ارادت لنزعت من الجميع ما لديهم. لكن ببساطة، هذا غير صحيح. ما من احد لديه مثل هذه القدرة على وجه البسيطة، مثلما ان ما من احد إلّا ويخاطر بأن يخسر اشياءه، وكل واحد منا، ويبدو اليوم مروحة واسعة جداً من اللبنانيين، يبدو أنها دفعت الى حالة “الما لا يُطاق”.