خلال الأسبوعين الماضيين اللذين سبَقا تظاهرة الحراك الشعبي أمس الأوّل في ساحة الشهداء، حصل نوع من التقويم لواقع الحراك ومستقبله بعد أكثر من شهرين على انطلاقه. الجهات التي أجرت هذا التقويم، كلّ على حدة، كانت متنوّعة، بينها كواليس زعماء أحزاب سياسية كبرى، وأيضاً بيئات متموضعة داخل الحراك نفسه. وإلى هؤلاء، اهتمّت بإجراء التقويم جامعات مهتمّة بمستقبل الشباب (القدّيس يوسف مثالاً) وسفارات أجنبية وازنة في بيروت. واللافت أنّ كلّ واحدة من هذه الجهات خَلصت إلى تقويم مغاير عن الأخريات.
الفكرة – الخلاصة التي سادت لدى زعماء وازنين في البلد خلال الأسبوعين الماضيَين، والمستندة إلى تقديرات أجهزة أمنية لبنانيّة، حكَمت على الحراك بأنّه آخَذ في التراجع السريع نحو أفوله؛ ودلائل هذا الاستنتاج كثيرة: تضاؤل لافت لأعداد المشاركين في فعاليّاته؛ تعثّر واضح يشوب قدرة منظّميه على المبادرة إعلامياً وسياسياً ولوجستياً؛ والمسؤول عن كلّ ذلك، هو الانشقاقات والخلافات داخل أطيافه، وغياب الرؤية الجامعة وعدم قدرته على فرز قيادة فاعلة وموحّدة له، وذلك على رغم محاولة الحراك تجاوز هذه الأزمة عبر تشكيل هيئة «حركة 29 آب» التي ضمَّت ممثلين عن كلّ حملاته ومكوّناته لتكوّن قيادتَه الميدانية.
لقد تبايَن سياسيّو الأحزاب الكبرى في توصيف خلاصات تقويمهم للحراك في لحظته الراهنة على رغم اشتراكهم في فكرة أنّه يعيش أزمة بنيويّة من الصعب أن يُشفى منها.
بعضُهم أيقَنَ أنّه انتهى وما بقيَ منه هو أصداء قنبلة صوتية؛ وبعض آخر فضّل الاستمرار في عدم الاكتراث له معتبراً أنّ واقع البلد يُرسَم في نزاع المنطقة، وثالث عبّر عن عدم مفاجأته بالتقدير السائد عن أنّ الحراك آخذ في التبدّد، لأنّه منذ الأساس رأى أنّ الحراك محكوم عليه بالفشل لأنّه سيصطدم في النهاية بتركيبة لبنان الطائفية.
وعلى رغم الميل الواثق الذي سادَ قبَيل تظاهرة الخميس الماضي بأنّ الحراك يَذوي، إلّا أنّ هناك بعداً آخر فيه ظلّ يشغل بال سياسيّين لبنانيين يتّصفون بأنّهم زعماء أحزاب كبيرة. وجوهر هذا البعد يتجسَّد في السؤال عن علاقة الحراك بالخارج. وتحديداً عمّا إذا كان للأميركيّين أصابع كلّية أو جزئية في تحريكه، وإذا صحَّ أنّهم لهم دور فيه، فما هي أهداف واشنطن منه؟
وأيضاً عن صحّة المعلومات في شأن صلة «الدولة الغنية الصغيرة» به وتمويلها لإعلامه. وفي المحصّلة استكشاف الرأي الحقيقي للخارج بالحراك.
والواقع أنّ خلاصة الإجابات التي توافرت للباحثين عن هذا النوع من الأسئلة ظلّت حمّالة أوجُه، وأقلّه ليست شافية. ولا شكّ في أنّ عدم الحصول على تشخيص واضح للبعد الدولي في الحراك، مثّلَ كلّ ما تبَقّى من استمرار قلق كبريات أحزاب البلد منه.
أجوبة عن مستقبل الحراك
التحليل الأكثر رواجاً عن وظيفة الحراك ومستقبله يَميل إلى الاعتقاد بأنّ واشنطن تحاول استخدامه لإنضاج خيار فرض رئيس جمهورية على الطبقة السياسية اللبنانية. وأكثر من ذلك هناك من يقول إنّ فكرة عقد طاولة حوار وطني على رأس بنودها انتخاب الرئيس، كان هدفها قطع الطريق على التوظيف الأميركي للحراك، أو أقلّه الالتقاء معه في منطقة تقاطع.
وحتى الحراك، فإنّه يواجه داخلياً سجالاً ساخناً على خلفية خشية بعض أطيافه من أن تكون جهات وازنة داخله تُماشي هدفَ واشنطن الذي يَضع للحراك هدف ترهيب السياسيين لانتخاب رئيس، ثمّ بعد ذلك ينفرط عقده.
تجدر الإشارة في هذا المجال الى أنّ نسبة عالية ممّا يسمّى جمهور الحراك «المتردّد» الذي لا يزال حتى الآن يُفضّل عدم حسم أمره بالنزول الى الشارع، إنّما مبرّره للبقاء في دائرة الانتظار هو خوفه من أنّ الحراك لا يُعبّر فعلاً عن «ربيع لبنان»، بل عن «خريف أميركي» لانتخاب رئيس جديد. هؤلاء المتردّدون معظمهم من الجمهور المسيحي المنتمي الى فئة النخَب الذين يملكون تأثيراً على بيئاتهم في الجامعات وقطاعات المهن الحرّة.
ومنذ أيام عدة نظّمت إحدى الجامعات اللبنانية «المسيحية» في إدارتها، ندوةً عن واقع الحراك ومستقبله، وخلصَت إلى اعتبار أنّ له وجه شَبهٍ مع ما حدث في اليونان وإسبانيا والبرازيل، وليس مع حالات «الربيع العربي»، وأنّ نجاحه مرهون حصراً باستطاعته إنتاج طريق سياسي ثالث في البلد، وعدا ذلك ليس له أيّ أفق.
أمّا التقويمات الأخرى التي حصلت في الأسبوعين الماضيين والتي سَبقت تظاهرة أمس الأول داخل بيئات الحراك الأساسية، وتحديداً منظمات المجتمع المدني واليسار، فكانت خلاصاتها أيضاً متباينة.
«طلعت ريحتكم» رأت أنّ الحراك حقَّق إنجازات، وليس صحيحاً أنّه في مسار تراجعي، بل هو دخلَ مرحلة المراكمة، وتمّ إيراد واقعة سحبِ ملفّ النفايات من يد وزير البيئة محمد المشنوق، كمثلٍ عمليّ على اضطرار الحكومة التنازل أمام ضغوط مطالب الحراك. أمّا اليسار فسادَته أجواء متضاربة، لكنّ قسماً غير قليل فيه اعتبر أنّ الحراك يُواجه أزمة وجودية مركّبة أساسُها عدم ثقة اليساريين بمنظمات المجتمع المدني.
وهؤلاء وصلوا في تقويمهم إلى حافة نَعي الحراك، وطرحوا فكرة تعديل أجندة اليساريين داخله؛ فبدلاً من الرهان عليه بحدّ ذاته لإحداث التغيير والعمل من خلاله للوصول لهذا الهدف، فإنّ الأجدى الرهان على الحراك بصفته مناسبةً يمكن أن يستغلّها اليساريون لتجميع صفوفهم وخلقِ كتلة يسارية موحّدة تذهب إلى نضال ديموقراطي تستقلّ به.
وفي ما يتعلق بالأجواء المسرّبة بصفتها تُعبّر عن رأي السفارة الأميركية في واقع الحراك في هذه اللحظة (قبَيل تظاهرة الخميس الماضي)، فقد امتازت بأنّها لم تُرضِ لا أهلَ الحراك ولا حتى القوى السياسية التقليدية المتوجّسة منه.
لقد توقّف الأخيرون في قراءتهم لأجواء نسَبها مسرّبوها إلى السفارة الاميركية، أمام معلومة تفيد أنّ واشنطن متيقّنة من أنّ الحراك الشعبي في لبنان لن يتوقف، أقلّه حتى انتخاب رئيس جديد. وأكثر من ذلك، زعَمت هذه التسريبات أنّ واشنطن مقتنعة بأنّه حتى لو بقيَ هناك محتجّ أو متظاهر واحد في الساحات، فإنّ الحراك لن ينتهي، طالما إنّ قصر بعبدا شاغر.
أمّا الشقّ غير الإيجابي من الأخبار المنسوبة إلى السفارة الأميركية والتي للمفارقة تركت هواجس عند الحراك وأهل الحكم؛ فتحدّث عن فكرة أعمق تسود مهتمّين دوليين وعرباً بالحراك، تمّ استنتاجها من خلال مراجعة تجربته المستمرّة منذ أكثر من شهرين.
وملخّص هذه الفكرة أنّ هذه الجهات الخارجية تُعيد تقويم أداء الحراك، بهدف تصحيح مساره ووضعه على منصّة انطلاق أقوى لجعلِه أكثرَ قدرةً على الاستمرار ضمن خصوصية الوضع اللبناني.
وتركّز عملية إعادة التقويم على إخراج الحراك من مدار خاطئ دخل فيه، وأدّى إلى صدامه مع الطوائف السياسية اللبنانية: ففي قضية النفايات تشعَّب الحراك ليؤسّس لصِدام مع الطائفة الدرزية، وفي إصراره على اقتحام ساحة النجمة بدأ يؤسّس لصدام مع الشيعة، وفي قضية الوزير محمد المشنوق اصطدمَ بالانفعالات الطائفية السنّية.
وتفيد هذه المراجعة، حسب التسريبات المنسوبة لأصحابها، أنّ هناك إدراكاً حقيقياً بأنّ شارع الحراك لا يزال طريّاً، وأنّه بنسبة عالية منه حتى الآن، لا يزال بمثابة قنبلة صوتية في مقابل أنّ شوارع الطوائف السياسية لا تزال مكتظة بالحشود الكبيرة وبإمكانات الفعل المادي، وعليه، فالمطلوب رسم أداء جديد للحراك ينقِذه من التورّط في معركة مبكرة وغير متكافئة مع الطوائف السياسية.
لقد انتهت أمس الأوّل تظاهرة الحراك على مشهد تناقُصِ أعداد المشاركين فيها قياساً بتظاهرات سابقة له، وأيضاً على مشهدين متناقضين: سِلميّ في بدايتها وعنفي في نهايتها، لكنّ فاعليات التظاهرة تنفي التقدير الذي ساد عشية حدوثها بخصوص أنّ الحراك دخل لحظة احتضاره، على رغم أنّ فعالياتها لم تنفِ في المقابل أنّ الحراك ليس في لحظة أزمة.
وعليه فإنّ تقويم مشهده يحتاج لإعادة مراجعة جديدة انطلاقاً من قراءة ما حدث في تظاهرة أمس الأوّل، وذلك من المتواجهين على ضفتيه: أحزاب الحكومة وأطياف الحراك… ومن ورائهما أيضاً الأصابع الخارجية.