رفعَت تركيا منسوبَ تدخّلِها في العمق السوري، تفاهمَت مع واشنطن على تدريب المعارضة، توَغّلت عسكريّاً لسَحبِ رفات سليمان شاه، أكّدَت على لسان وزير خارجيّتها أنّ أولويّتها إسقاط النظام، ومحارَبة «داعش». لقد دخلت سوريا مرحلةَ اقتسام النفوذ، ويريد الرئيس رجَب الطيّب أردوغان أن يكون حاضراً، لا يريد إقليماً كرديّاً على غرار العراق، ويريد الاستثمار بورقة التنظيمات الأصولية إلى أبعد الحدود.
يحصل كلّ ذلك فيما روسيا منشغلة بالأزمة الأوكرانيّة، وإيران بالمفاوضات النوَوية، إلّا أنّ الكرة لن تستقرّ طويلاً في مرميَيهما، وسيكون الردّ من خلال التطوّرات الميدانيّة على الجبهات المشتعلة.
في الكواليس الديبلوماسيّة كلامٌ من نوع آخر، لم تعُد الجبهة الجنوبية من درعا إلى القنيطرة، والجولان، ومزارع شبعا أولويّةً قبل الانتخابات الإسرائيليّة، لا تريد الولايات المتحدة راهناً أيّ تغيير في التوازنات الفارضة نفسَها على أرض الواقع في تلك المناطق.
لا تريد أن تطوفَ صندوقة الاقتراع في ذلك المثلّث الاستراتيجي، ولا رسملة رصيد بنيامين نتنياهو الانتخابي بأيّ مكسَب عملانيّ، سواءٌ أكان إعلاميّاً، أم معنويّاً من خلال فتحِ الجبهات، ورفعِ منسوب التهديدات والعنتريّات. خطفَت المشهد فجأةً، ومعه الأنظار إلى أنقرة، بتفاهم مع أردوغان على تدريب المعارضة، ودعوة مفتوحة للتورّط أكثر في الأزمة السوريّة.
نَفّذ الرئيس التركي خَرقاً عسكريّاً مدروساً، ومنَسّقاً مع الجهات المؤثّرة. إستعادَ رفات مؤسّس السَلطنة العثمانيّة، وكسبَ شعبية واسعة كان يحتاجها، لكن غداً يوم آخر. لعبة المحاور الدوليّة لا تزال أكبر من حساباته، ومسار التطورات في عين العرب كانت أبعدَ ممّا يُريد ويشتهي. هناك تحدّيات وأثمان لا بدّ من أن تُدفَع، فـ»داعش» و»جبهة النصرة» على حدوده، وعليه أن يدرّب المعارضة المعتدلة، فكيف سيتصرّف؟
يعرف تماماً خطوطَ الطول والعرض الدوليّة، ومحاذرةُ الوقوع في الأشراك المنصوبة مسألةُ حكمةٍ وفطنة، فيما الذين ينتظرونه على الكوع إنّما يراهنون على «دعسةٍ ناقصة» قد يُقدِم عليها.
لقد زار الرئيس فلاديمير بوتين أنقرة، إلّا أنّ وجهات النظر حيال سوريا استمرّت متباعدةً. أمّا الإيراني فليس ببعيدٍ عن المكان والزمان، يحاول أردوغان الاستماعَ إلى رأيه، والوقوفَ على خاطره، لكنّ الجواب لن يأتيَ سريعاً، ولا دفعةً واحدة، ومَن يملك أسهماً قويّة في بورصة الأزمة السوريّة لن يفرّط بها أو يُبدّدها مجّاناً.
في المقابل، لا يزال الموفد الأممي ستيفان دو ميستورا يُمسك بالقلم الأحمر بدعم المجتمع الدولي، ويرسم الدوائر الحمر، حول حلب، وعين العرب، والكانتون الكردي. إنّه تقسيمٌ قائم، وخريطة جديدة للتسوية، وقبل أن ينطلقَ قاصداً المنطقة، حصلَ تفجير انتحاريّ في القرداحة، وكان استنتاجٌ سريع في الكولسات الديبلوماسيّة «بأنّ عملية ترسيم حدود الكانتون العلوي قد بدأت، وبالدم القاني، هذه المرّة».
هناك مَن يقول إنّ مهمّة دو ميستورا لن تقتصر على سوريا، ستكون له محطة مهمّة في لبنان تحمل نكهةً رئاسيّة. سبقَ له أن عالجَ ملف النزوح مع المسؤولين، وملف الجنود المخطوفين، وملف عرسال والجوار، وملف الإرهاب، وسيكون للبحث صِلة في كلّ هذه الشؤون والشجون، إنّما ستكون هناك إضافات تتناول الملف الرئاسي، ووجوب تسريع الاستحقاق، والانتقال منه إلى سائر الملفات التي تُعنى بإعادة بناء مؤسسات الدولة التنفيذيّة والتشريعيّة، والقضائيّة والأمنيّة، إلّا أنّ الوقائع لا تزال صادمة:
أوّلاً، ليس مِن مسعى جدّي لفصلِ التسوية في لبنان عن التسوية في سوريا.
ثانيّاً، إنّ الاجتماعات المكثّفة لمحاربة الإرهاب، من الرياض إلى واشنطن، ومن بروكسل إلى جنيف لم تفضِ إلى وضوح في الأهداف والأغراض، نظراً للغموض الذي يكتنف الاستراتيجيات، أو ما يُعرَف بتقاسم المصالح، حتى الآن ليس من توجّه جدّي للقضاء على «داعش»، و«النصرة»، ومشتقّاتهما.
هناك حزمٌ واضح في حماية الدوَل والمجتمعات الغربيّة، يقابله تصميمٌ مفرط على استمرار المجموعات الإرهابيّة ناشطةً وفاعلة وحيويّة في دوَل المنطقة لأنّها تؤدي الأدوار المرسومة لها بدقّة وعناية فائقة.
… ولا يُبدّد مِن سَواد هذا الواقع المظلم، سوى كلام متداوَل في كواليس ديبلوماسيّة، لا أساس له من الصحّة حتى الآن، ومع ذلك هناك مَن يصرّ عليه، ومِن موقع الواثق بأنّ لبنان أمام زحمةٍ من الوفود والموفدين سيصلون تباعاً، ويستثمرون في الحوار الداخلي الهَشّ، ويدفعون بالجميع إلى ساحة النجمة بحيث تتفَتّح مِن هناك براعمُ الاستحقاق الرئاسي مع تفَتّحِ براعم الربيع في الثلث الأخير من آذار… الغدّار!