لا شك، وعلى مدى عقود من الزمن، كان الاستثمار في العقارات اللبنانية مربحا بل مربحا جدا. أسعار الأراضي والعقارات ارتفعت أضعافا حتى في المناطق البعيدة. المساحات المتوافرة للاستثمار قليلة مقارنة بالدول العربية الأخرى. من هنا وضعت الدولة حدودا على تملك غير اللبنانيين يجري تجاوزه عبر طرق «ملبننة» غير جديدة، لكنها تنفذ بوسائل وابداعات حديثة. هنالك نقل شرعي لملكية بعض الأراضي يتم في مناطق بين طوائف وأخرى ومذاهب وأخرى تقلق جميع اللبنانيين، لأنها يمكن أن تغير وجه قرى أو حتى مدن معينة. لا يمكن رفض أو وضع قيود على نقل ملكية أصول بين لبنانيين مهما كانت التكلفة. نعيش في اقتصاد حر، ولا يمكن تقييده تحت شعارات سياسية أو دينية. لا يمكن فرض نقل ملكية بين لبنانيين، لكن لا يمكن أيضا منع نقلها بين طرفين لبنانيين يرغبان في ذلك. ندعي الحرص على الحريات وخاصة الاقتصادية، ونتصرف عكس ذلك تماما. اذا كانت هنالك من أسباب سياسية أو دينية أو مذهبية تتقدم على الحرية الاقتصادية، فلا بد من ايجاد وسائل تمويل مناسبة تعالج المشكلة. فالمواطن الذي يبيع أرضا ما، يفعل ذلك لأسباب متعددة منها تعليم الأولاد أو التطبيب أو السكن، فمن له الحق في تقييد حريته؟ أو من يمول له هذه الحقوق الانسانية البديهية. الانسان في لبنان متروك ليس فقط خلال سنين عمله، وانما خاصة بعد التقاعد الا اذا كان غنيا أو أقله ميسورا.
أسعار الشقق أصبحت فوق قدرة اللبناني المتوسط على شرائها بسبب الطلب الكبير الذي أتى من خارج لبنان منذ السبعينات وخاصة في التسعينات. تم بناء الشقق الكبيرة التي تفوق حتى قدرة العديد من الأغنياء اللبنانيين على شرائها. أسعار المكاتب والمحلات ارتفعت، وأصبح التحدي يكمن في قدرة المستثمرين على تحقيق الأرباح التي تسمح لهم في الحفاظ عليها. في ظروف متعثرة كالتي نعيش فيها اليوم، لا يستطيع العديد من الشركات تسديد فاتورة الايجار وبعضها يقفل. في وسط بيروت، أعداد المقفلين كبيرة والبدائل ليست متوافرة لا للمالك ولا للمستأجر. اقفال بعض المطاعم والفنادق في ظروف متعثرة محزن، لكنه طبيعي لأن لبنان يتكل دائما على المستهلكين العاملين خارج لبنان. هؤلاء لا يأتون اليوم الى لبنان للأسباب الأمنية والسياسية المعروفة. لا يمكن النجاح في الحملات الاعلانية والاعلامية لجذب السياح الينا في ظل الأوضاع القائمة. للسائح اليوم فرص كبيرة بديلة للاستجمام في المنطقة وخارجها كأوروبا الشرقية حيث ربما تكون أسعارها وخدماتها أفضل مما عندنا.
لا شك أن من استثمر في العقار اللبناني في الماضي حقق أرباحا فاقت المخاطر المعتمدة، وسمحت في تطوير هذا القطاع المهم الذي يشغل العديد من القطاعات الأخرى المعدنية والخشبية والحرفية والمهنية وغيرها. من مساوئ هذه الأرباح القطاعية، انها حولت الاستثمارات الى العقارات وأفقدت القطاعين الزراعي والصناعي وحتى الخدماتي ايرادات مالية كانت ستساهم دون شك في تنويع الاقتصاد اللبناني وتحديث ركائز الانتاج كافة. أصبح الاقتصاد اللبناني غير متوازن بشكل مقلق جعله يتعرض للهزات الكبيرة مرارا عدة، كلما تعثرت الأوضاع الخارجية وخاصة الاقليمية. هل حان وقت التصحيح تجنبا لخسارات كبرى لا تكون على حساب العقارات وانما على حساب كل الاقتصاد؟ أزمة 2008 بدأت في العقارات الأميركية وامتدت الى العالم أجمع ولم يتعاف الاقتصاد منها بعد. دبي أنقذت نفسها بمساعدة الامارات الأخرى، خاصة أبو ظبي، لكنها تعي اليوم مرارة التجربة السابقة وتحاول تجنبها بكل الوسائل والسياسات المتوافرة. لبنان ليس غنيا، وبالتالي تجنب انهيار عقاري هو مسؤولية الجميع من الحكومة الى القطاع الخاص والناس.
في اعتقادنا أن العصر الذهبي للاستثمار العقاري اللبناني قد ولى ليس بالضرورة نهائيا، وانما لفترة غير قصيرة نتيجة ما يجري داخليا واقليميا. انتهاء العصر الذهبي العقاري لا يعني عدم جدوى الاستثمار فيه، انما يعني التنبه وعدم التهور والتسرع في الذهاب اليه في كل الظروف ومهما كانت الشروط والمعطيات. الأوضاع المتردية في المنطقة مستمرة لفترة غير قصيرة، وبالتالي النظر بموضوعية وعقلانية ضروري جدا. ان العوامل المحركة للقطاع العقاري الحالي ترتكز على المعطيات التالية:
أولا: في العرض، جميعنا يعرف انه متوافر بكثرة في كل المناطق ولا حاجة اليوم الى بناء المزيد في معظم المناطق اللبنانية، الا الشقق الصغيرة التي ما زالت الحاجة اليها كبيرة وهي غير متوافرة بالكميات والأسعار المناسبة. يكفي النظر الى الاعلانات ليتبين لنا أن هنالك مشكلة يمكن أن تتفاقم. لا بد من البناء خارج بيروت أي في شعاع 25 كلم بحيث يتنقل المواطن منها والى مركز عمله دون عناء. هنالك ضرورة لتعديل مواعيد العمل أو لخلق دوامات مرنة متعددة لا تفرض على الجميع الذهاب الى العمل في نفس الوقت.
ثانيا: في الطلب، لا شك أن قدرة اللبناني على شراء المتوافر ضئيلة والقادرون في معظمهم اشتروا. هنالك دائما فرصا، الا أن فترة السبعينات كانت مختلفة وارتكزت على منطقة عربية ناهضة اقتصاديا وعلى أسعار نفط مرتفعة بالمعنى الحقيقي للكلمة. ركائز الطلب تغيرت جذريا ولا يمكن تجاهلها.
ثالثا: الأسعار جامدة دون مبرر، وعلى عكس ما يشير اليه قانون العرض والطلب. من هنا، نتوقع وتبعا لما يجري في الداخل والخارج أن يضطر العارضون الى تخفيض الأسعار خاصة أولئك الذين اقترضوا من المصارف للبناء. البيع بحسومات معقولة أفضل من تسليم النفس للمصارف التي تتشدد في أعمالها خوفا من المخاطر والتزاما منها بقرارات مصرف لبنان.
رابعا: التخبط في القوانين الناتج عن تخبط الدولة في كل شيء. لا نعرف اذا كان قانون الايجارات الجديد نافذا أم لا، وما هي التعديلات المطلوبة التي من الممكن أن يقرها المجلس النيابي بعد الغاء بعضها من قبل المجلس الدستوري ورأي هيئة القضايا في هذا الايطار. هنالك تخبط وسؤ معالجة للمشاكل المزمنة تساهم في تفجيرها. لا شك أن المطلوب حل لهذه المشكلة المزمنة بالتعاون بين الفريقين عبر الدولة. هذا التخبط التشريعي يعكس ما يجري اليوم في لبنان من فوضى، ولا يطمئن المستثمرين.
هنالك عامل جديد يؤثر على الساحة العقارية وهي استمرار انخفاض أسعار النفط العالمية لفترات طويلة مستقبلية. قسم مهم من الطلب على العقارات أتى ويأتي من العاملين بشكل مباشر أو غير مباشر في القطاع النفطي العربي، وبالتالي يتأثرون به وبأوضاع دوله المنتجة. هذا الانخفاض سيؤثر حكما على الطلب العقاري، وننصح بعدم تجاهله وبناء قصور في اسبانيا لا ركيزة لها. هنالك واقع آخر جديد مستمر وهي الأحداث الخطيرة المتفاقمة في المنطقة، بدأ من سوريا الى العراق واليمن وليبيا والسودان وغيرها. تؤثر هذه الأجواء السياسية العسكرية والأمنية سلبا على المناخ الاستثماري في العقار وغيره. أخيرا بالاضافة الى ما سبق ولتجنب مشكلة عقارية تؤثر سلبا على كل الاقتصاد اللبناني، نقترح ما يلي:
أولا: تخفيض مناسب في الأسعار يحرك السوق، أي يسمح بتحقيق أرباح معقولة للمستثمرين ويقع ضمن امكانات اللبنانيين الشرائية، خاصة الطبقات الوسطى وما دون.
ثانيا: نأمل تنويع الاستثمارات المستقبلية من قبل المستثمرين العقاريين، أي التوجه أكثر الى القطاعات الأخرى من صناعة وزراعة وخدمات التي تساهم في توسيع سوق العمل وبناء مستقبل أفضل للشابات والشباب اللبنانيين. التوجه نحو القطاعات التي لها فرص مستقبلية تصديرية هو مناسب ومربح على المدى البعيد كما يبني اقتصادا أقوى وأسلم.