تشابكت الأزمات اللبنانية عند مستديرة الطيونة واكتسبت المحلّة المذكورة رمزيات متعدّدة قد يكون أقلها استحضار خط الإشتباك التقليدي بين شطريّ العاصمة. ما حصل في الطيونة لا يخرج عن تطوّر منهجي لصراع سياسي بين فريق لبناني رأى في اتّفاق الطائف فرصة للتحرر من التطبيع القسري الذي مارسته دمشق على لبنان منذ دخول قوات الردع العربية عام 1976، وفريق آخر قادته دمشق تحت عناوين متعدّدة وقرر الإلتصاق بمدارها أينما ذهبت. تحوّل هذا الصراع دمويّاً بعد أن اكتسب بعده السيادي حاضنة شعبية واسعة بين اللبنانيين، وكان أول مظاهره محاولة اغتيال مروان حمادة، ليتوالى بعدها العنف فصولاً عبر قافلة من شهداء السيادة والإستقلال والدستور والدولة المدنية وحرية الرأي تقدّمهم الرئيس رفيق الحريري. ومع انتقال المدار الإقليمي من دمشق إلى طهران يبدو أنّ الصراع سيستمر بوجهه الدموي، وهو لن يتوقف حتى قيام الدولة.
لم يتغيّر شيء مع واقعة الطيونة عما قبلها، تصدّر حزب الله المشهد متهماً القضاء بالتسييس ومكرراً قواعد الإشتباك عينها، التي درج على استعمالها وفرضها منذ العام 2005، تعطيل عمل الحكومة والقفز فوق الدستور والمؤسسات وتهديد الإستقرار. القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع اليوم في موقع الإتهام، في المكان الذي شغله سابقاً الرئيس فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط وسعد الحريري، بينما تفتقد الدولة الحدّ الأدنى من مقوّمات قرارها الحرّ.
المعطيات السياسية اللبنانية لا توحي بإمكانية إحداث إي تطور في أزمة بلغت ذروتها. يبدو أنّ رئيس الحكومة الذي حط رحاله بالأمس في بغداد آثر اعتماد أسلوب الإنتقال بين العواصم العربية الذي لجأ إليه الرئيس سعد الحريري قبل التنحي. لا فرق بين رئيس حكومة نشأت في حاضنة إيرانية ورئيس حكومة مكلّف حاول تشكيل الحكومة خارج هذه الحاضنة ولم يفلح، ولا فرق كذلك بين إصرار رئيس الجمهورية على تجاوز صلاحيات رئيس الحكومة ودوره في التشكيل وإدارة السلطة التنفيذية وتجاوز دور المجلس النيابي في المساءلة، وبين حكومة غير موجودة إلا في المراسيم فيما يقوم المجلس الأعلى للدفاع بدورها غبّ طلب رئيس الجمهورية.
طبعاً العيوب ليست في أُطر ممارسة السلطة وتشابك الأدوار أو في هدر الوقت فحسب، بل في عدم وجود رغبة حقيقية لدى تحالف رئيس الجمهورية وحزب الله بولوج الأزمة ومواجهة البنك الدولي وصندوق النقد ووضع الأسباب الحقيقية للعجز الإقتصادي والإلتزام بالإصلاحات المطلوبة، لا سيما حيث المصدر الرئيس للمال السياسي وللفساد المتمثّل بوزارة الطاقة وبالممسكين بقرارها. إنقلاب البنك الدولي على ملاحظات النواب حول قرض الـ 246 مليون دولار الذي أُقرّ بموجب القانون 219 في نيسان الماضي ليس سوى نموذج على الإمعان في الفشل وتغييب المصلحة الوطنية وازدواجية التعاطي من قبل المنظومة، وهو عيّنة عن استحالة المباشرة بالمفاوضات وعلى فشلها في حال حصولها.
من جهة أخرى، وبصرف النظر عن الغرابة والضبابية في متن قانون الإنتخابات رقم 44 الذي صنّف اللبنانيين بين مقيم وغير مقيم، وحجب حق غير المقيمين منهم في المشاركة الحقيقية في الإنتخابات، وأضاف ستة مقاعد على المجلس بحيث يصبح عدد النواب 134 نائباً، ليعاد بعدها في الدورات اللاحقة إلى احتساب هؤلاء من ضمن الـ 128 نائباً بعد تخفيض ستة مقاعد لنفس الطوائف
(المادة 122 من القانون 44 تاريخ 17/6/2017)، فأنّ المنازلة المرتقبة بين رئيس الجمهورية والمجلس النيابي، وظاهرها التعديلات على موعد إجراء قانون الإنتخابات والدائرة المخصّصة لغير المقيمين، ليست سوى استثمار في الوقت الحرج ومحاولة لتطويع الظروف لتحسين ميزان القوى الداخلي أو لترتيب الإستحقاقات الدستورية الوطنية بما يتناسب مع أجندات إقليمية، وربما للإطاحة بالإنتخابات تحت عناوين سياسية غبّ الطلب أو إلزامات أمنية يتمّ ابتكارها.
الإنتخابات النيابية المقبلة وبصرف النظر عن القانون هي فرصة حقيقية لاختبار القدرة على التغيير، حيث ستشهد العديد من الدوائر أفول قوى وشخصيات تصدّرت المشهد على مدى عقود. ففيما تقدّم أحداث الطيونة وردود الفعل على التحقيق العدلي في جريمة تفجير المرفأ وتقاذف الإتهامات بين الحلفاء أكثر من دليل على العجز الكبير في استقطاب الرأي العام والجمهور حول خطاب لم يتبقَ منه سوى الإستنفار الطائفي، يقدّم فريق آخر من اللبنانيين وقوى سياسية أفرزها المجتمع المدني وثورة 17 تشرين ومرجعيات وطنية على امتداد الوطن، يتمسّك بخطاب السيادة والإعتدال ودولة القانون وجهاً آخر للناخب اللبناني الديمقراطي المراهن على قواه الذاتية.
وعلى قاعدة الإستفادة من الدروس المستقاة من التجربة العراقية، لقد أضحت نتائج الإنتخابات العراقية معطى يفرض نفسه على الرأي العام الدولي والإقليمي وعلى حسابات القوى المتدخلة في العراق، وهي نقطة البداية لتغيير ديمقرطي نحو مشروع الدولة الوطنية، برغم الظروف التي رافقتها ومنها القرار الأميركي بالإنسحاب من العراق، مما يؤكّد أنّ نجاح الناخبين في التغيير إنما استند إلى رغبة وطنية حقيقية. فبالرغم من قتامة المشهد فإنّ اللبنانيين على اختلاف إنتماءاتهم مدعوون لخوّض غمار تغيير ديمقراطي عنوانه انتصار التعدّدية السياسية على الأحاديّة والشمولية السياسية والمذهبية. لقد وفّرت التعدّدية السياسية ضمن الأكثرية الشيعية في العراق مصدر القوة لمشروع التغيير، فهل تنجح التعدّديات اللبنانية ضمن الأقليات المتناحرة في قيادة مشروع التغيير المنشود.
العميد الركن خالد حمادة