حتى يوم أمس، تجاوز عدد اللبنانيين الذين وصلوا إلى العراق هرباً من الحرب 23 ألفاً، وفق آخر تحديثٍ عراقي حكومي للأرقام. هذه «الاستضافة»، كما وصفها رئيس الحكومة العراقية، محمد شياع السوداني، أثارت هواجس عراقية – لبنانية من سيناريو تهجيرٍ قد يكون متعمّداً للبنانيين الشيعة إلى العراق، ومن ألّا تكون إقامتهم هناك مؤقّتة. ويركن المتخوّفون في البلدين إلى أن بعض مظاهر الاستقرار والتسهيلات التي تقدّم للنازحين اللبنانيين، كتأمين الوظائف، قد تدفعهم إلى الاندماج بالمجتمع العراقي. كلام يعيد إلى الأذهان ما قيل في خضم حرب تموز 2006، عن مشروع مماثل لتهجير الشيعة من جنوب لبنان إلى جنوب العراق.
إلا أن واقع الأمور لا يعكس، أقلّه لتاريخه، علاماتٍ تستدعي القلق، دون أن يعني ذلك أن لا حاجة إلى متابعة تطور أوضاع العائلات النازحة إلى بلاد الرافدين. وفي هذا الصدد، علمت «الأخبار» أن عدداً قليلاً من النازحين بدأ العمل في متاجر البيع، ومحال إصلاح الهواتف، وغيرها من الأعمال البسيطة التي تندرج جميعها تحت مظلّة القطاع الخاص، وهي أعمال تؤمّن للنازح مدخولاً يغطي جزءاً من المصاريف، لكّنها ليست من النوع الذي يدفع الفرد إلى الاستقرار. في المقابل، رفضت الحكومة العراقية طرحاً قدّمه محافظ النجف لتوظيف لبنانيين في المؤسسات الرسمية التابعة للمحافظة تحت مبرر الاستفادة من خبراتهم، ليأتي الجواب القاطع من الحكومة بأن هذا التوجه غير وارد لدى المستوى السياسي العراقي، ولا لدى «الضيوف اللبنانيين» وفق مصادر عراقية.
وفي السياق نفسه، يؤكّد السفير اللبناني في العراق علي الحبحاب لـ«الأخبار» أنّ «الجانب اللبناني لم يلمس ما يثير القلق»، وأنّ «القرار الرسمي العراقي هو التعامل مع اللبنانيين بصفتهم ضيوفاً لن تطول إقامتهم»، وأنّ ذلك لا يتعارض وحسن الضيافة والمساعدة بكل ما أمكن. وفي هذا الإطار، فتحت الحكومة العراقية حسابين للتبرع للبنان وغزة، وأودعت فيهما أكثر من 20 مليون دولار، وشكّلت لجنة برئاسة مستشار رئيس الوزراء لشؤون حقوق الإنسان، زيدان خلف العطواني، للتنسيق مع كل الجهات الفاعلة، مثل المعنيين في العتبات المقدّسة و«الحشد الشعبي» والهلال الأحمر العراقي.
وحتى قرار السماح للطلاب اللبنانيين بالالتحاق بالمدارس العراقية، لا تضعه مصادر معنية في سياق عملية الدمج التي يحكى عنها، إنما تصفه بـ«حسن الضيافة، ومحاولة تعويض اللبنانيين ما فقدوه بسبب الحرب»، مع العلم أنّ وزير التربية إبراهيم الجبوري، عرض فكرة تشكيل لجنة عراقية – لبنانية، من بين النازحين أنفسهم، إن كان من بينهم من لديه الإلمام ويستطيع المساعدة في الشق المتعلق بالمناهج التربوية، وإمكانية التوفيق بين المنهجين العراقي واللبناني.
أثارت التسهيلات التي قُدّمت للنازحين هواجس من سيناريو تهجير
وعلى مستوى ترتيبات الإقامة، يفيد الحبحاب بأنّ «البحث يدور حول الإجراء المُفترض اتباعه مع قرب انتهاء الشهر الأول من دخول العائلات إلى العراق، إذ كانت السلطات العراقية، بناءً على قرار حكومي وبالتنسيق مع سفارة لبنان، قد منحت النازحين إذناً بالإقامة المؤقتة لمدة شهر. وعليه، شكّل وزير الداخلية العراقي عبد الأمير الشمري لجنة لوضع توصيات ترفعها الى الحكومة لاتخاذ القرار المناسب حول المدة الزمنية لتمديد إقامة اللبنانيين. وهذا الإجراء يشمل جميع الواصلين الى البلد، بمختلف الطرق، إن عبر المنافذ الجوية الثلاثة: البصرة، كربلاء والنجف، أو عبر المعابر البرية. وجميعهم يتم تسجيل أسمائهم لدى السلطات العراقية والسفارة اللبنانية في بغداد. وهم في الأصل استفادوا من سماح السلطات العراقية لهم بالدخول بواسطة بطاقات الهوية أو جوازات السفر المنتهية الصلاحية، تسهيلاً لخروجهم من لبنان في ظل الظرف القائم.
إغاثياً، وبمجرّد إصدار المرجع الديني الأعلى في العراق السيد علي السيستاني فتواه بالوقوف إلى جانب اللبنانيين في محنتهم، تشكّل فريق من المؤسسات التابعة للعتبات الدينية (العلوية والحسينية والعباسية والكاظمية)، للاستعداد لاستقبال سبعة آلاف لبناني، والتكفّل بتأمين انتقالهم من سوريا إلى العراق، وتوفير الإيواء، والمأكل والمشرب، وكل انواع الرعاية الاجتماعية، على نفقة العتبات التي تتمتّع بإمكانيات وموارد ضخمة. الأكيد وفق الحبحاب، أنّ القدرة الاستيعابية في المساكن التابعة للعتبات، في مدن كربلاء والنجف والكاظمية، بلغت حدها الاقصى، ويقطن فيها سبعة آلاف لبناني يحظون بالرعاية الطبية. وبالتوازي، فتحت العتبات المقدسة مخازنها، وأرسلت منذ بداية الشهر الجاري نحو 300 شاحنة محملة بمواد إغاثية، اتجهت نحو لبنان، لكنها تجد صعوبة في الوصول بسبب تعرض بعضها للاستهداف الإسرائيلي عند دخولها الأراضي السورية، وأيضاً بسبب العدوان الذي طاول معبر المصنع. وفيما امتنع الجيش اللبناني عن فتح الطريق تحت ضغط أميركي، تعمل الجهات العراقية بالتنسيق مع جهات دولية كالصليب الأحمر على إدخال الشحنات، ولو ببطء.
مع اكتظاظ المضافات التي وفّرتها العتبات، اتجهّت العائلات اللبنانية (حوالي 13 ألفاً)، إلى السكن في منازل الأقارب والأصدقاء، أو في مضافات أخرى تتبع لـ«مشروع المؤمن القوي» الذي يشرف عليه الشيخ طارق البغدادي وكيل السيد السيستاني. ويلفت منسق محافظات العراق في «المشروع» احمد العتبي، إلى أنّه مع صدور فتوى السيستاني، سارع حوالي 150 شاباً يعملون في المؤسسات التابعة للمشروع، إلى تنظيم صفوفهم، لمساعدة اللبنانيين. واستطاعوا من خلال حملة التبرعات جمع أكثر من 13.5 مليون دولار، وتأمين عددٍ من المساكن الخاصة من دون مقابل، جهزوها بالأثاث اللازم، والمواد الغذائية، وفتحوها أمام العائلات النازحة. ويشير العتبي إلى أنّ كربلاء والنجف تشهدان اكتظاظاً كبيراً، داعياً اللبنانيين الى التوجه نحو مدن البصرة وبغداد والعمارة وديالى، «رغبة في خدمتهم».