سيتوجّب على من يعتقد انّ المنطقة مقبلة على أي استقرار من ايّ نوع مراجعة حساباته. ما يدعو الى مثل هذه المراجعة تصميم ايران على خلق واقع جديد على الأرض في غير دولة عربيّة، خصوصا في العراق وسوريا ولبنان… واليمن. يشمل التصميم الإيراني، على خلق مثل هذا الوضع الجديد في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربيّة، تكريس الوجود الجدّي لـ”الحرس الثوري” في قطاع غزّة عبر “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.
لم يأتِ رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنيّة الى بيروت من فراغ. جاء برسالة واضحة فحواها انّ ايران هي الطرف الأقوى في “حماس” وهي صاحبة القرار في غزّة. لا يدلّ على ذلك اكثر من غياب أي برنامج سياسي واضح للحركة والاكتفاء باطلاق الشعارات الطنانة التي هي في الواقع شعارات ايرانيّة. هذه الشعارات من نوع تحرير فلسطين كلّ فلسطين او “حقّ العودة”. يحتاج “حقّ العودة” الى تغيير جذري في موازين القوى في المنطقة والعالم ليس في متناول اليد، لا اليوم ولا غدا، للأسف الشديد. بكلام أوضح، جاء هنيّة الى بيروت ليقول إنّ “حماس” في لبنان برعاية “حزب الله” وإنّ لبنان نفسه برعاية الحزب ولم يعد سوى جرم يدور في الفلك الإيراني…
لم يكن العرض العسكري لـ”الحشد الشعبي” في العراق قبل ايام سوى دليل على انّ “الحشد” مجموعة من الميليشيات المذهبيّة التابعة في معظمها لـ”الحرس الثوري” الإيراني. اكثر من ذلك، بات “الحشد” جزءا لا يتجزّأ من تركيبة الدولة العراقية. ما الذي يستطيع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي عمله في سياق سعيه الى دور عراقي وسطي في المنطقة، دور يقرّب العراق من دول الخليج العربي ومن مصر والاردن ولا يغضب ايران في الوقت ذاته؟
ستكون مهمّة الكاظمي ورئيس الجمهوريّة برهم صالح في غاية التعقيد في ظلّ هذا الإصرار الإيراني على لعب دور محوري في إدارة العراق. تبدو ايران مصرّة على دورها المهيمن في العراق على الرغم من انّ هذا الدور مرفوض من أكثرية الشعب العراقي، بما في ذلك الشيعة العرب. لكنّ العراق دخل الحسابات الايرانيّة من زاوية مختلفة هي زاوية المفاوضات الأميركية – الإيرانية التي ترفض “الجمهوريّة الاسلاميّة” توسيعها لتشمل صواريخها الباليستية وطائراتها المسيّرة وسلوكها خارج حدودها. تعتقد ايران، بكلّ بساطة ان لديها من الأوراق ما يجعلها قادرة على اجبار إدارة بايدن على عقد صفقة تقتصر على العودة الى الاتفاق في شأن ملفّها النووي الموقع في العام 2015 من جهة ورفع العقوبات الأميركية عنها من جهة أخرى.
ليس معروفا بعد هل تسمح الأوراق التي في حوزة ايران باجبار الإدارة الأميركية على صفقة بشروط “الجمهوريّة الاسلاميّة”. في انتظار اكتشاف طهران انّ هذا الامر ليس ممكنا، ستكون المنطقة مسرحا لتجاذبات تتصّف بالحدة وليس قصف الاميركيين لمواقع لـ”الحشد الشعبي” في منطقة الحدود العراقية – السوريّة سوى جزء منها. ستتابع ايران محاولاتها لثبيت مواقعها في سوريا مستفيدة من الموقف الروسي الحائر. لا يعبّر عن هذا الموقف اكثر من رضوخ موسكو لرغبة طهران في اجراء انتخابات رئاسيّة سوريّة مزورة تجدّد لبشّار الأسد سبع سنوات أخرى. سارت روسيا في المخطّط الإيراني ولا تجد حاليا من خيار أمامها سوى السعي الى التفاوض مع الإدارة الأميركية في شأن مستقبل سوريا ومعابر المساعدات اليها. تكمن مشكلة موسكو ببساطة في انّها لا تعرف ان الادارة الاميركيّة تعرف. اوّل ما تعرفه الإدارة الأميركية ان روسيا وضعت نفسها في خدمة ايران في سوريا وأن ايران تسيطر عمليّا على النظام السوري وعلى ادقّ التفاصيل المرتبطة بالاجهزة السوريّة.
لكن المكان الذي تلعب فيه ايران اوراقها بحذاقة ودهاء، هو اليمن. ليس ما يشير الى ان الحوثيين على استعداد للتخلي عن الدولة التي اقاموها في شمال اليمن. على العكس من ذلك، إنّهم يعززون وجودهم في هذه الدولة ولم يتوقفوا امرين. اولّهما اطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة في اتجاه الأراضي السعودية والآخر عن متابعة هجومهم على مدينة مأرب الاستراتيجيّة.
تعمل ايران على إقامة وجود دائم لها في اليمن. يتبيّن اكثر في كلّ يوم انّ الحوثيين ليسوا سوى أداة طيّعة في يدها وانّهم في امرتها…
لا شكّ ان ايران تقرأ خريطة التحولات في المنطقة بطريقة جيّدة. أعطت خطة الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان كلّ الإشارات الخطأ في الوقت الخطأ. إضافة الى ذلك، نشرت “وول ستريت جورنال” أخيرا معلومات عن نيّة الإدارة الأميركية سحب قوات وبطاريات صواريخ “باتريوت” من قواعد عدّة في المنطقة، بما في ذلك قواعد في المملكة العربيّة السعوديّة والأردن.
هل خيار الاستسلام لإيران خيار اميركي؟ الواضح ان مثل هذا الخيار غير وارد. لكنّ لا بد من الانتظار قبل ان تكتشف “الجمهوريّة الاسلاميّة” بعد تولي الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي مهمّاته قريبا انّ خيار الاستسلام الأميركي ليس واردا.
ليس معروفا متى ستكتشف ايران ذلك. ولكن في انتظار ذلك، ستستخدم كلّ اوراقها دفعة واحدة. سيكون هناك مزيد من التجاذبات والتوتّر في المنطقة. سيكون هناك مزيد من الضغوط تمارسها ايران في كلّ الاتجاهات لتأكيد انّها القوّة الإقليمية المهيمنة في الشرق الأوسط والخليج. الأكيد انّ محاولة الحوثيين الاستيلاء على مأرب لن تتوقف قريبا وأنّ السعي الى ابتزاز السعوديّة سيستمرّ وأن استخدام الروس في سوريا سيتحول الى سياسة ايرانيّة ثابتة. إضافة الى ذلك، ستسعى ايران الى تأكيد ان لبنان مجرّد مستعمرة في جيبها تفعل فيها ما تشاء. اكثر من ذلك، ما يحلّ بلبنان واللبنانيين آخر همّ لدى ايران ما دام الهدف الوصول الى صفقة مع “الشيطان الأكبر”، صفقة في خدمة مشروع توسّعي لا افق من ايّ نوع له…