ليس سرّاً أنّ التمدّد الذي حقّقته إيران وقوى الممانعة للسيطرة على أربع عواصم عربية، جاء في سياق تناغم اميركي – إيراني في بعضها، ونتيجة غضّ نظر أميركي حيال هذا التمدد في البعض الآخر، إذ لم تشهد الجغرافيا الممتدة على طول ما سمي “الهلال الشيعي”، بالاضافة إلى اليمن، أي مواجهة بين واشنطن وطهران منذ الدخول الأميركي إلى افغانستان إثر أحداث 11 ايلول الشهيرة في أميركا العام 2011 وصولاً إلى نهاية 2019.
لقد كان التمدد الإيراني يتناغم مع مقولة رئيسية راجت على لسان العديد من المسؤولين الأميركيين الذين أشرفوا على إحداث انقلاب تاريخي في العراق، إن الارهاب الذي آذى اميركا هو الإرهاب الذي مثلته “القاعدة” بما هي امتداد لـ”ثقافة اسلامية” مصدرها المدرسة السنّية أو “الوهابية” على وجه التحديد. وهذا تطلب إعادة الاعتبار لـ”المدرسة الشيعية” من خلال دعم استلامها السلطة، بتنسيق إيراني – أميركي عشية احتلال العراق في العام 2003. حيث قال حاكم العراق آنذاك جون بريمر، إن “الاكثرية الشيعية طالما كانت مضطهدة في العراق تاريخياً، وكان علينا أن نصحح هذا الخلل”.
لا مواجهة في اليمن
في اليمن لم تواجه القوات الاميركية التمدد الايراني والذي كان ينشط ويتمدد منذ تسعينات القرن الماضي، من خلال بناء نفوذ ثقافي وتربوي وعسكري لاحقاً عبر الحوثيين أو ما سمي “أنصار الله”، في الوقت الذي كانت الغارات الجوية الأميركية تطاول عشرات المعسكرات التابعة لتنظيم القاعدة طيلة الفترة التي امتدت على سنوات العقد الأول من القرن العشرين، ولم تكن واشنطن لترى في النفوذ الإيراني وتمدّده خطراً يجب مواجهته كما كانت الحال مع تنظيم القاعدة.
في الشأن السوري، ومنذ انطلاقة الثورة السورية العام 2011 كان دخول مقاتلي “حزب الله” وجنود قائد فيلق القدس قاسم سليماني سلساً، لناحية عدم وجود أي اعتراض أميركي أو إسرائيلي، فعشرات آلاف المقاتلين تدفقوا من لبنان والعراق وايران وافغانستان وباكستان، دعماً لنظام بشار الأسد، من دون أن يتعرض أيّ من هؤلاء لاستهداف أميركي وإسرائيلي خلال قتالهم وقمعهم الثورة السورية على امتداد الجغرافيا السورية. وفي مرحلة لاحقة مع نشوء تنظيم “داعش” وتمدده في العراق وسوريا ضمن ما سمي دولة الخلافة الإسلامية في سوريا والعراق، كان مقاتلو سليماني والحشد الشعبي العراقي، يقاتلون بحماية الطائرات الأميركية، التي قلبت موازين المواجهة مع تنظيم “داعش” في العراق ثم في سوريا، وبتناغم واضح وجلي مع قائد فيلق القدس آنذاك سليماني.
“حزب الله” حمى الضعف اللبناني
أما في لبنان، فلم يكن الأمر شديد الاختلاف وإن كانت له خصوصية تتمثل في أن واشنطن كانت تأخذ دوماً الحسابات الإسرائيلية الاستراتيجية في أول اهتماماتها في الشأن اللبناني، لذا كانت إسرائيل تقارب المسألة اللبنانية من زاوية استراتيجية تتمثل في ضمان الاستقرار على حدودها الشمالية، وظلّ “حزب الله” ودوره أفضل الخيارات السيئة، طالما أنه يضمن عدم وقوع الفوضى على هذه الحدود، باعتبار أن الخيارات الاخرى غير مضمونة في ظل دولة ضعيفة، سعى “حزب الله” دوماً إلى حماية هذا الضعف وإدامته، باعتباره مصدر وجود الدور والفعالية والحضور لنفوذه ولايران بطبيعة الحال.
والخلاصة أن المواجهة الاميركية – الايرانية عسكرياً لم تقع على طول هذه المنطقة رغم الخطاب العدائي الذي شغل المنطقة بين الطرفين، فيما التناغم كان غالباً في الميدان بين الطرفين منذ العام 2003 في الحد الأدنى. ما جرى منذ الغى الرئيس الاميركي الاتفاق النووي مع ايران، كان ايذاناً بأن الادارة الاميركية لن تسمح بان تنتقل ايران من دولة اقليمية مؤثرة ومقبول دورها من قبل واشنطن الى دولة نووية.
المسألة النووية هي الاساس في المشكلة القائمة بين واشنطن وطهران، أكثر مما هي نفوذ اقليمي ظلّ ولا يزال منضبطاً ومتناغماً مع متطلبات واشنطن، ولكن ما فاقم المشكلة أخيراً أن ايران وأمام مرحلة تقاسم النفوذ وترتيبه اقليمياً ودولياً، عمدت الى تقديم دورها في المنطقة باعتباره مقرراً وليس وظيفة دولية اقليمية، وهذا ربما ما جعل صاحب القرار في ايران يتوهم أنه قادر أن يحمي نفوذه ويعززه عبر مقارعة المصالح الاميركية في المنطقة، وربما توهم أن الانتصارات التي حققها على الثوار السوريين أو بعض الجماعات العراقية، تؤهله لمقارعة واشنطن وفرض شروطه، متناسياً أن جلّ نفوذه في المنطقة تم بمعزل عن مواجهتها مباشرة، إن لم يكن بعونها ولحسابات اميركية في المنطقة. كما سقط الدور الايراني الموهوم، في فخ السياسات الاسرائيلية التي عمدت الى تضخيم خطر ايران وميليشياتها على وجودها، لمزيد من تحصين دورها بل تمدده الاستراتيجي الذي كان وهم الخطر الايراني جسره، باتجاه كل من كانت ايران تهدد وجودهم في العالم العربي.
ربما تدرك القيادة الايرانية وأذرعها في المنطقة ومنها لبنان، أنها وصلت الى خط النهاية، فالزخم الفعلي لهذه القوى الممانعة على امتداد “الهلال الشيعي”، ربما حقّق بعض الانتصارات في اماكن لم تكن واشنطن طرفاً فيها، اليوم واشنطن هي الطرف المباشر من داخل ايران عبر العقوبات الى العراق الذي شهد قتلاً علنياً لقائد التمدد الايراني، وحتى الطائرة المدنية الاوكرانية، واشنطن من كشفت أن سقوطها لم يكن نتيجة خطأ من قائدها.المواجهة لم تعد تحتمل انصاف الحلول من لبنان الى ايران، أما المواجهة التي ستؤدي الى ضربة قاتلة للمشروع الايراني أو البحث في ما يمكن ان تقدمه واشنطن من دور، فلن تكون الميليشيا والسلاح غير الشرعي عنواناً من العناوين التي يمكن ان تستمر في زمن ما بعد سليماني في المدى المتوسط او القصير.