أكثر من تشابه بين مقتل رفيق الحريري في بيروت يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ومقتل علي عبد الله صالح في صنعاء يوم 4 ديسمبر (كانون الأول) 2017، وفشل محاولة اغتيال د. مصطفى الكاظمي في بغداد يوم 7 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري.
قدم القرار الاتهامي بشأن مقتل الحريري، أدلة ووقائع، في بلدٍ ممسوك أمنياً من القوات السورية وقوة رديفة من «حزب الله»، ليخلص إلى أن التحضير للجريمة ما كان ليتم إلّا في إطار «مؤسسة إجرامية»، بوسعها أن «تمتلك 2500 كلغ متفجرات عسكرية لا تقتنيها إلا الجيوش، وبإمكانها التنقل بها في الشوارع».
الأكيد أن علي صالح ارتاح إلى الحشود التي أعلنت دعمه مطلع ديسمبر 2017، لكن الأحداث، أظهرت أنه لم يكن على بينة من أن الميليشيا الحوثية التي اختطفت صنعاء، اخترقت القوات النظامية وأحكمت سيطرتها وقررت التخلص منه. وعندما أنجزت جريمتها وصف عبد الملك الحوثي مقتل صالح بأنه «يوم استثنائي وعظيم». يومها استرجع المراقبون عبارة حسن نصر الله عندما وصف اجتياح بيروت بأنه «اليوم المجيد»!
ما أن أعلنت نتائج الانتخابات في العراق، وبروز التصويت العقابي ضد ميليشيات «الحشد الشعبي» التي تقودها طهران، حتى نزل هؤلاء إلى الشارع رافضين ما حملته صناديق الاقتراع. بدأ التصويب على الكاظمي فاتُهم بتزوير الانتخابات. «قوى اللادولة»، وفق مقتدى الصدر، تحركت لإضعاف رئيس الوزراء ولقطع الطريق على احتمال تكليفه تشكيل الحكومة الجديدة، فربما ارتأى البعض ممن لا يعيرون الانتخابات اهتمامهم، أن قلب الطاولة يقربهم من أهدافهم. فكانت العملية الإجرامية بـ«المسيّرات» التي فشلت في حذف الكاظمي جسدياً. وكم التشابه كبير بين من يملك مسيّرات بغداد ومن يملك متفجرات عسكرية في بيروت.
كان رفيق الحريري الشخصية السياسية الأجرأ بعد «11 سبتمبر»، فحاور المسؤولين في واشنطن وباريس، عن لا عقلانية توجيه اتهامات الإرهاب جزافاً ضد العرب، وضد أكثر من مليار سني في العالم. نبّه من خطورة أخذ الجميع بجريرة مجموعة من الإرهابيين قتلوا من العرب أكثر مما قتلوا من سواهم. ما حمله رفيق الحريري إلى عواصم الغرب، لفت إلى حجم التنسيق بين نظام الملالي و«القاعدة» وبن لادن شخصياً، وصوّب على الخط الإرهابي الممتد من بيشاور وأفغانستان إلى خرطوم البشير مروراً بطهران والبقية معروفة، فقانون المحكمة الخاصة بالحريري لا يشمل محاكمة كيانات فكان تجريم قياديين من «حزب الله».
تمادي الميليشيات الحوثية، وبروز المشروع الإجرامي الموكل إليها الذي يستهدف اليمنيين والمنطقة، كما الهيمنة على باب المندب أبرز ممرات التجارة الدولية، ربما نبّه متأخراً الرئيس السابق لليمن إلى المخاطر المتأتية عن تحالفه مع الحوثيين. فوجه الدعوة لإعلان انتفاضة شاملة ضد الحوثيين، وأعلن صالح عن استعداده «لفتح صفحة جديدة مع التحالف العربي». تأخر كثيراً، الرجل الذي بنى كل تحالفاته وفق وصايا حاكم دولة حِميَر لابنه حسان في القرن الـ15 وفيها: «لا يحكم حِميَر إلّا من قتل حتى أقرب الناس إليه، أخوك سيقتلك إن لم تقتله». فانتهت تحالفاته بمقتله وكثيرين من مؤيديه ما فتح أبواباً دموية مخيفة.
مصطفى الكاظمي في النهج الذي اتبعه «ارتكب» خطايا في نظر الميليشيات، فكان القرار «إزاحته جسدياً». لقد أراد الكاظمي استرجاع الدولة العراقية، واستعادتها مكانتها وقدراتها واستنهاض مؤسساتها، على حساب ميليشيات أنشأتها طهران تغولت وتحاصصت وراحت تحدد توجهات العراق وسياسته… فأيقظ حلماً لدى المواطنين بأن هذا البلد يمكن أن يكون جسراً للتلاقي، فعمل على إخراجه من دائرة عنفٍ منفلت، ونجح في تفكيك مجموعات إرهابية استسهلت اغتيال ثوار أكتوبر، وأُحيل كثيرون إلى القضاء. تمت سيطرة القوى الشرعية على الحدود، وبدأ العراق يتحدث بصوتٍ واحد، ونفذ انتخابات هي الأكثر قرباً إلى النزاهة مما عرفه العراق… فكانت المحاولة الآثمة التي ضاعف فشلها من حضوره وقوته ومحورية دوره.
عندما توعد الكاظمي معتدين «نعرفهم جيداً وسنكشفهم» وهم الذين «استهدفوا الدولة العراقية»، محذراً ممن «يحاول أن يعبث بأمن العراق ويريده دولة عصابات»، بدأت تتبلور معطيات عن المكان الذي انطلقت منه «المسيّرات» الإيرانية الصنع، وأن الصواريخ هي من النوع الذي استخدم في قصف القواعد الأميركية، لتوجه أصابع الاتهام بالمسؤولية عن الاعتداء إلى «حزب الله» العراقي، بشراكة ما مع «العصائب».
في هذا التوقيت كان أول «زوار» بغداد الجنرال إسماعيل قاآني قائد «فيلق القدس»، تزامناً مع افتضاح المرتكبين، وكما في السابق، من لبنان إلى العراق ومروراً باليمن كل الأصابع تشير إلى دور طهران. فبدا هاجس الزيارة لملمة الوضع وتحديد الخسائر، لأن ما شهده العراق منذ ثورة أكتوبر 2019 بلور حجم القوى الرافضة للسيطرة الإيرانية، من بغداد إلى البصرة مروراً بالناصرية وكربلاء والنجف. والأمر الذي يعرفه قاآني ومن هم خلفه أن الوكلاء في العراق الأكثر تورطاً بالفساد، بات مصير سلاحهم مطروحاً على النقاش، وهاجس قاآني تأجيل هذا الملف ما أمكن، مقابل ضبط إيقاع ميليشياته لتلافي تقديم تنازلات أكبر.
من أحداث بغداد المفتوحة على أكثر من تطور، إلى إصرار «حزب الله» على المضي باختطاف القرار اللبناني، وتعطيل حكومته لجهة التمسك بالوزير الحوثي الهوى جورج قرداحي، ووضع لبنان في موقع رأس حربة الهجمة الإيرانية ضد السعودية وبلدان الخليج، ما عطل أي خطوة جدية وعملية تتيح استدراك الخلل الكبير مع هذه الدول، ومروراً بمراوحة حوثية على جبهات مأرب، وعدم تبيان حجم الاتفاقات بين موسكو وتل أبيب بشأن الوضع في سوريا، لا تبدو مريحة لطهران ما اعتبرته سيطرة لها على أربع عواصم عربية.
وإذا كان ارتهان الجماعة المتحكمة بلبنان شبه مطلق، وافتقار الطبقة السياسية لـ«كاظمي» لبناني، هو ما مكّن «حزب الله» من إحكام قبضته على مفاصل القرار، فإن المناخ الذي أوجدته ثورة «17 تشرين» 2019، ما زال يقض مضجع جبروت «الحزب» الذي سيحاول منع الاستحقاق الانتخابي مستفيداً من الدرس العراقي، وقلقاً من نتائج ممارساته التعطيلية حيال التحقيق العدلي في جريمة تفجير المرفأ والعاصمة، فتقدم الصفوف لحجب الحقيقة ومنع العدالة وتكريس الإفلات من العقاب.
صورة نفوذ طهران في الإقليم، ليست مريحة لنظام الملالي عشية محادثات فيينا النووية، بعد تعذر الحصول على ضمانات أميركية أو تخلٍ عن عقوبات أو إرجاء مسألة السلاح الباليستي… لكن قدرة طهران ما زالت كبيرة جداً على التوتير، والاستثمار في كل أشكال التصعيد. فحرب اليمن سجال، وفي سوريا تفلت الأوراق من يديها، وهناك كاظمي وكتلة ضاغطة كبرى في العراق… فهل تدفع التطورات اللبنانية بعضهم إلى الخروج من اللاموقف، أما قوى الاعتراض فهي أمام تحدٍ جديد يبدأ بتلافي السقطات المجانية.