لا يكتفي وكلاء إيران من الشيعة العرب بالاستحواذ على السلاح غير الشرعي، تحت اسم «المقاومات»، لضرب هيبة الدولة وبنيتها وشروطها. هذا حاصل في بيروت وبغداد بشكل واضح وفي اليمن وسوريا بشكل أكثر تعقيداً.
إنها الجيوش الستة في الإقليم التي قال قاسم سليماني إنها أفضل ما أنتجته الاستراتيجية الإيرانية؛ لدرء الحرب المباشرة عن نفسها. حتى إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لـ«حماس»؛ الإخواني السني، زلّ لسانه وفضح مستور دور «حماس» كما تراه قيادة «الحرس الثوري» الإيراني؛ ففي مقابلة قبل أيام قال هنية إن من بين أسباب دعم طهران حركته أنها «تشاغل عدواً مشتركاً» وتحقق بالتالي مصلحة إيرانية بأن يبقى العدو المشغول بغزة وغيرها عازفاً عن الحرب المباشرة مع إيران. أياً تكن تكاليف استئجار غزة درعاً بشرياً لإيران؛ فهي قليلة بمقياس ما تحققه من نتائج وعوائد أمنية واستراتيجية.
بيد أن السلاح لا يكفي وحده لإدامة الميليشيات وسطوتها. ولعل أخطر ما تقوم به هذه الميليشيات هو تحقير السياسة بوصفها آلية لإدارة المجتمع. والتحقير يتمثل في جعل الكذب العلني والمفضوح والساخر من عقل الناس هو ديدن الخطاب السياسي، مثابرة على إفقاد الناس الأمل في السياسة والمؤسسات والدولة، وإحالة كل ما يتصل بالشأن العام إلى دليل على عقم العملية السياسية وإثارة الشك حول كل الوقائع.
في لبنان مثلاً وبعد 90 يوماً من اختطاف الحكومة ومنعها من الانعقاد، بسبب إصرار «حزب الله» على «قبع» القاضي طارق بيطار المولج التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، أعلن الثنائي الشيعي العودة إلى الاجتماعات. وتضمن إعلانه عدداً من المبررات؛ أبرزها الاستجابة لحاجات المواطنين، «ومنعاً لاتهامنا بالتعطيل» مع الاعتراف بأن «لبنان يمر في أزمتين؛ اقتصادية ومالية، لا سابق لهما، وسط أوضاع سياسية معقدة».
من عطل الحكومة علناً، ومن تشكل عودته إشارة انطلاق أعمالها، ينفي عن نفسه تهمة التعطيل، بوقاحة غير مسبوقة في أي خطاب سياسي، وباحتقار لا حدود له لعقول البشر.
حقيقة الأمر أن لا حاجات المواطنين في أولويات «حزب الله»، ولا ما يترتب على الأزمتين الاقتصادية والمالية. ببساطة شديدة؛ حقق «حزب الله» مراده بشأن القاضي بيطار. ومن دون تشويش ذهن القارئ العربي، توصل عقل الشر اللبناني إلى مخرج بيروقراطي يوقف عمل البيطار من دون أن يزيحه عن الملف، وفحوى هذا المخرج أن «الهيئة العامة لمحكمة التمييز» فقدت نصابها بتقاعد أحد قضاتها؛ مما أدى إلى تعطيلها، ريثما تتم تعيينات قضائية جديدة (لن تتم بالطبع). ولأن «الهيئة العامة» تنظر في طلبات رد ومخاصمة بحق القاضي بيطار من قبل المتهمين، فستُكف يد القاضي عن الملف من دون أن تكون «الهيئة العامة»، الفاقدة النصاب، قادرة على البت في طلبات الرد والمخاصمة. النتيجة البسيطة تعليق عمل القاضي البيطار بفخ بيروقراطي يشل حركته إلى أجل غير مسمى.
أخذ «حزب الله» ما يريده بعد اختطاف الحكومة، وأفرج عنها تحت غطاء ناري من التصريحات الحريصة على الناس ومصالحهم.
هل كانت هذه المصالح لتؤثر في قرار «حزب الله» لو لم يتوصل عقل الشر اللبناني إلى المخرج المشار إليه أعلاه؟ الإجابة التي يعرفها كل الناس هي: كلا. ولكننا اليوم في فلك الأزمة نفسها وبإزاء حكومة مشلولة ممنوعة من الانعقاد. لكنها جرأة احتقار السياسة والعقل والبداهة هي التي تسول لـ«حزب الله» أن يتدثر الحرص على الناس.
أدوات إيران العراقية قدمت مشهداً مماثلاً في تتفيه السياسة. ترفض هذه الأدوات أولاً نتائج الانتخابات البرلمانية، التي حسمت بالعد الإلكتروني والعد اليدوي النتائج لصالح مقتدى الصدر، وثبتت هزيمة جماعة إيران هزيمة نكراء.
وهي إذ تمعن في رفضها وتصف الانتخابات بـ«المزورة»، تصر على أنها، بموجب نتائج الانتخابات المزورة نفسها، هي صاحبة الأكثرية والكتلة الكبرى.
وتصل السوريالية الاحتقارية للعقل إلى حدود عجيبة، في التعليق على حادثة التضارب التي حصلت داخل البرلمان العراقي في جلسة انتخاب رئيس البرلمان. فقد هال الميليشيات وأذرعها السياسية، «مستوى العنف داخل البرلمان»، وهالهم أكثر «تشويه سمعة الديمقراطية العراقية»، وراحوا يبالغون في الاتهامات لخصومهم بأنهم «يستحوذون على السلطة بقوة العنف، ويسعون لإعادة تكوين السلطة في العراق عن طريق البلطجة»!!
المستنكرون العنف والمستفظعون الإساءة إلى الديمقراطية العراقية، ينتمي بعضهم إلى تشكيلات عسكرية وبعضهم متهم بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، بمسيّرات استهدفت منزله. ومتهم بعضهم الآخر بالتحضير لعمليات تفجير أمني بدأت نذرها في بغداد بغية خلق واقع أمني متأزم يؤمل له أن يدفن نتائج الانتخابات، بعد أن استحال تغييرها بالبلطجة السياسية.
بيد أن ذلك لم يمنع ذابحي الديمقراطية بنصال الغوغائية والبلطجة، من تدثر عباءة المؤسسات والانتخابات والسلم الأهلي.
في العراق كما في لبنان، اللعبة واحدة: ميليشيات تنتحل صفات سياسية ودستورية لا تفعل إلا تحقير السياسة والسياسيين والديمقراطية والديمقراطيين والدولة والدولتيين. عمل ممنهج لتدمير كل المعاني والمقاصد النبيلة لفكرة إدارة الشأن العام وتعميم الاتهام والشبهة على كل ما له صلة بعمل الدولة والمؤسسات والدستور. فرط حثيث لا للدولة؛ بل للعقد الاجتماعي نفسه الذي يجعل الأوطان ممكنة، والذي لا يكفي السلاح لفرطه.