IMLebanon

ايران وقدر المدن العربية  

 

 

في مثل هذه الايّام، قبل 41 عاما، بدأت تظهر التحولات العميقة في ايران. فبعد ايّام قليلة على عودة آية الله الخميني من باريس، في شهر شباط – فبراير من العام 1979، تبيّن انّ الثورة الشعبية التي أطاحت الشاه ونظامه بدأت تأخذ منحى مختلفا عمّا كان يعتقده ويؤمن به الايرانيون العاديون. هؤلاء كانوا يطمحون الى قيام نظام افضل من نظام الشاه… اذا بهم بعد أربعة عقود يترّحمون على الشاه ونظامه.

 

ظهر بعيد عودة الخميني الى طهران انّ هناك نظاما جديدا بدأ يثبت نفسه تحت تسمية «الجمهورية الإسلامية». لا يحترم هذا النظام أي سيادة لأي دولة من دول المنطقة على أراضيها. يعتبر نفسه متخطّيا للحدود المعترف بها دوليا. بالنسبة اليه، ان الرابط المذهبي يتجاوز حدود الدول. لذلك، نجد ايران اليوم في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن، مباشرة او عبر ميليشاتها المذهبية!

 

هناك جملة قصيرة صدرت عن الخميني تلخّص الكثير من نمط تفكيره وطموحاته. ففي الطائرة التي اقلّته من باريس الى طهران، سأله مراسل أميركي بعدما بدأ الركاب يشاهدون الأرض الايرانية من نوافذ الـ»بوينغ 747» التابعة لشركة «آر فرانس»: ما هو شعورك وانت الآن فوق ارض وطنك؟ جاء جواب الخميني: «لا شيء». تقول هاتان الكلمتان كلّ شيء. ليست ايران التي تهمّ الخميني. ما يهمّه هو تصدير الثورة. لا يزال تصدير الثورة، يشكّل الى اليوم، لبّ تفكير النظام الايراني. لا يزال اللبّ على الرغم من ان تصدير الثورة لم يجرّ سوى الخراب. جرّ الخراب على ايران نفسها وعلى كل دولة او ارض وجدت فيها ايران، بما في ذلك قطاع عزّة.

 

كانت رحلة السنوات الـ41  طويلة. استطاعت ايران تغيير المنطقة نحو الاسوأ في اتجاه تفكيك عدد من الدول العربية من داخل، فضلا عن القضاء على أي امل بإيجاد تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

 

هذا «نجاح كبير»، وانّ من الناحية السلبية، للثورة الايرانية التي رسم مسارها الخميني، بعد سقوط الشاه. قبل ذلك، كانت هناك أصوات مختلفة، بعضها ليبرالي عبّر عنها تشكيل حكومة مهدب بازركان التي لم تعمر طويلا. ارادت الأصوات الليبرالية اخذ ايران في اتجاه الدولة العصرية ذات الدستور المستوحى من دساتير الدول الديموقراطية في أوروبا. لم يحدث شيء من هذا القبيل. شيئا فشيئا، راحت ايران تتجه نحو التحول الى بلد متزمت يتحكّم به «المرشد الأعلى» الذي هو الآن علي خامنئي وذلك في ظل نظام ولاية الفقيه. في الواقع، من يتحكّم بايران هو «الحرس الثوري» الذي يسيطر على قسم كبير من الاقتصاد ومفاصل الدولة.

 

في مسيرة الـ41 عاما، هناك جوانب يرى فيه النظام نجاحا. لكنّ هذا النجاح الذي ليس سوى غطاء لكارثة حلّت بالمنطقة كلّها، لا ترجمة له في المدى الطويل على ارض الواقع. هناك تجميع لاوراق لا يمكن صرفها عبر تحويلها الى مكاسب سياسية تجعل من ايران قوّة إقليمية مهيمنة.

 

عاجلا ام آجلا، هناك أسئلة ستفرض نفسها. ماذا تفعل ايران في العراق او في سوريا او في لبنان او في اليمن… او في غزّة؟ الجواب بكلّ بساطة انّ حكومة عراقية برئاسة محمّد توفيق علاوي ليست اكثر من وهم تتعلّق به ايران لاثبات انّها ما زالت صاحبة القرار في العراق. امّا مقتدى الصدر، الذي تحوّل اداتها المفضّلة هذه الايّام، فما الذي يستطيع تقديمه الى العراقيين غير تحوّله الى وسيلة قمع للتحرّك الشعبي الواسع بواسطة «القبعات الزرق» التي ليست سوى ميليشيا أخرى تضاف الى الميليشيات الايرانية المنتشرة في كلّ انحاء المنطقة؟

 

يمكن الذهاب الى الحديث عن الميليشيات الايرانية في اطار الحرب على الشعب السوري المستمرّة منذ تسع سنوات والتي ادّت الى تفكيك سوريا. كذلك يمكن الحديث عن دور «حزب الله» في إيصال لبنان الى حال الانهيار التي وصل اليها من اجل ان تقول طهران انّه صارت هناك مدينة على البحر المتوسط تحت سيطرتها. هذه المدينة هي بيروت التي تمر هذه الايّام بظروف في غاية الصعوبة، خصوصا في ظلّ رغبة الحاقدين في تدمير وسطها إرضاء لرغبة «حزب الله» ومن خلفه ايران في نشر البؤس في كلّ مدينة عربية ذات عراقة، خصوصا المدن ذات الطابع السنّي او االسنّي – المسيحي.

 

ستترك ايران خرابا كبيرا في المنطقة كلّها. في البصرة وبغداد والموصل وحلب وحمص وحماة ودمشق وبيروت وصنعاء. كشفت السنوات الماضية، الممتدة منذ العام 1979، انّها لا تتقن سوى التخريب. ولكن مثلما كانت 1979 سنة مفصلية على الصعيد الإقليمي، ستكون السنة 2020 سنة مفصلية أخرى من نوع آخر. في بداية تلك السنة استطاعت الولايات المتحدة تصفية قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في»الحرس الثوري» الايراني بعيد مغادرته مطار بغداد الذي وصل اليه قادما من دمشق.

 

كشف اغتيال سليماني، ومعه أبو مهدي المهندس، نائب قائد «الحشد الشعبي» ايران على حقيقتها. تستطيع «الجمهورية الإسلامية» تنفيذ سياسة ذات طابع تخريبي على كلّ صعيد وفي كلّ مكان تصل اليه ميليشياتها، لكنّه عندما يوجد من يقول لها انّ كفى تعني كفى، فهي لا تعود تمتلك سوى الصراخ والتهديدات الفارغة من ايّ مضمون. يتبيّن، كلّما مرّ الوقت، كم تعني عملية تصفية قاسم سليماني. انّها تعني قبل أي شيء آخر انّ العد العكسي بدأ. لم يعد امام «الجمهورية الإسلامية» سوى مواجهة الحقيقة العارية. تقول هذه الحقيقة بالفم الملآن ان ايران ليست سوى دولة من دول العالم الثالث لا يفرّق فيها «الحرس الثوري» بين طائرة مقاتلة وطائرة ركّاب اوكرانية أقلعت من مطار مهاباد في طهران. تختزل جريمة اسقاط طائرة الركاب الاوكرانية المآسي التي ولدت من رحم «الجمهورية الإسلامية»، في ايران نفسها وفي طول المنطقة وعرضها. من بغداد، الى دمشق، الى بيروت، الى صنعاء… الى قطاع غزّة حيث لم يعد يوجد عاقل يسأل كيف يمكن تحرير فلسطين انطلاقا من قطعة ارض صغير لا يجمع بين المقيمين فيها سوى الفقر والبؤس والجهل…

 

من الآن، الى ان يعي النظام الايراني ان العد العكسي بدأ وان تصفية قاسم سليماني التي ترافقت مع تشديد للعقوبات الاميركية، سيحل مزيد من الخراب حيثما وجدت ميليشيا مذهبية تابعة لـ»الحرس الثوري». هل سيكون في المستطاع اصلاح ما خربّته ايران في 41 عاما… امّا انّ ما كتب للمدن العربية الأساسية العريقة في منطقة الهلال الخصيب وفي اليمن هو بمثابة قدر لهذه المدن!