الهاجس الرئيس في لبنان اليوم يتمثل في حصوله على مساعدات من جهات خارجية ودولية تنشله أو تسهم في إنقاذه من شبه انهيار اقتصادي ومالي ومصرفي خانق يمرّ به، إنما تبدو الطريق محفوفة بالصعاب في ظلّ توجه فريق الممانعة و«حزب الله» الحاكم بأمره إلى رفض ما سوف يطلبه صندوق النقد الدولي.
الواضح أن لبنان عالق في شِراك السياسة الإيرانية، ومن واجب أصدقائه ألا يغفلوا عن هذا الواقع المرير القابض على مفاصل الحياة فيه ومساعدته على التحرر أولاً من حالته كبيدق ليس إلا على رقعة الشطرنج في طهران. صحيح أن البلاد واقعة في شرنقة من الأزمات الخطيرة من اقتصادية واجتماعية ومالية ونقدية، وصحيح أن أسباب هذه الأزمات متنوعة تبدأ بغياب الحوكمة الرشيدة والسياسات الراجحة ولا تنتهي بسوء الإدارة وتفشي الفساد والمحسوبيات والزبائنية، إنما خيوط هذه الشرنقة تبقى سياسية بامتياز، نسجتها آلة إيرانية بتأنٍّ وصبر لتحقق أخيراً هدفها في القضاء على كل ما ميَّز هذا البلد عن دول محيطه لا سيما الحريات، وفي جعله يدور في فلكها ومنصة أساسية للمضيّ قدماً في مشروعها الإقليمي التوسعي.
منحدران خطيران يدفعان هذه البلاد المُنهكة بسرعة وبدون مكابح نحو الهاوية؛ الأول سياسي يتمثل بدايةً في تركيبة هجينة للنظام السياسي زاد من فداحتها على مدى سنوات استقلال لبنان مركزه في عين الصراع العربي الإسرائيلي ومن ثم التجاذب بين مختلف القوى الإقليمية ليدخل لاحقاً تحت سلسلة احتلالات بدأت بالاحتلال السوري لتنتهي راهناً بالاحتلال الإيراني مع كل ما يستتبع ذلك من خيارات سياسية دهورت علاقاته مع معظم الدول العربية والغربية كما المجتمع الدولي، وانسحب ذلك على خيارات اقتصادية مالية غريبة وتفوح منها روائح غير مطمئنة بدأت اليوم في خطة الإصلاحات الاقتصادية الذي ارتأت الحكومة اللبنانية تبنيها وتعتزم بناءً عليها إعادة هيكلة الاقتصاد ودمج المصارف وتقييد حرية سحب الأموال وتحويلها، وكلها مشاريع تتهدد الأسس التي قام عليها لبنان وروحية نظامه السياسي وطريقة عيش أهله وأسلوب الحياة فيه.
المنحدر الثاني المرتبط بشكل وثيق بالأول هو اقتصادي اجتماعي ويتجسد بالغموض الذي يحيط من جهة بحجم خسائر الدولة اللبنانية ومصرف لبنان المركزي، ومن يغوص في هذه المسألة كالداخل إلى مغارة علي بابا، ومن جهة أخرى بمصير ودائع الناس مع تأكيد الوزير السابق جبران باسيل كذب من يقول إنها محفوظة. تبعات هذا الأمر تبقى الأخطر على الطبقة المتوسطة التي يبدو أنها الخاسر الأكبر وباتت مهددة بالانضمام إلى طبقة الفقراء مع كل ما يتركه ذلك من آثار سلبية على حركة الاقتصاد.
ضرْب النظام السياسي كما النسيج الاجتماعي يمهد لإعلان دخول لبنان، ولو متأخراً، إلى نادي الدول العربية التي شهدت انقلابات عسكرية حال سوريا في عام 1949 والعراق في عام 1958 وسوريا مجدداً في عام 1963 إلى اليمن والجزائر وغيرها. إن المواطن العربي كما اللبناني لم تغب عنهما ما مرّت به كلّ تلك الدول العربية من مصاعب وأزمات وتقشف وقمع واستبداد خلال السنوات الستين الماضية جراء الخواء السياسي والتراجع الاقتصادي التي خلّفته تلك الانقلابات وأنظمة الاستبداد.
يبدو أن لبنان دخل هذا المسار العسكريتاري التسلطي في عام 2016 عندما استولى محور الممانعة السوري – الإيراني على السلطات الثلاث في مشهد بدا حينها ترجمة تأخرت 25 عاماً لمشهد الجنرال ميشال عون في البزّة العسكرية داخل القصر الجمهوري خلال سنوات 88 و89 و90. هذا المشهد ذكّر كثيرين يومها بصور الانقلابات العربية البائسة وغير السعيدة الذكر ويبدو أننا اليوم نستنسخها وهي كافية لتحدد لنا صورة لبنان المستقبلية.
نسوق ما سبق لنسأل: هل بقي شيء من انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) لتضخ بعض التفاؤل؟ وهل نجاحها ولو بالحد الأدنى يفرج عن المساعدات الدولية التي طال انتظارها؟
يحضرنا هنا مضمون حلقة افتراضية عقدتها مؤسسة «بيت المستقبل» في لبنان الأسبوع الفائت، حول مستقبل علاقات لبنان العربية في هذه المرحلة، جمعت نخبة من المفكرين من لبنان والسعودية والكويت والإمارات، وتمحورت حول الأسباب التي تحول دون مد الدول العربية بعامة والخليجية بخاصة يد المساعدة للبنان، وما الذي ينبغي عليه القيام به ليحصل على هذه المساعدة.
لا بد من الإشارة أولاً إلى أن المنتدين أجمعوا على أن وراء مشكلات لبنان الداخلية والخارجية الرئيسة واهتزاز علاقته مع محيطه العربي وانعدام ثقة المجتمع الدولي به سبباً واحداً هو التموضع الإقليمي الممانع الذي جرّه إليه «حزب الله» وجعل منه ممراً رئيساً لسياسة إيران التوسعية في المنطقة. وتناولوا نقاطاً عدة للخروج من الأزمة نختصرها في التالي:
أولاً، ضرورة أن يتحمل اللبنانيون كافة مسؤولية الخروج من الوضع الذي وصلت إليه البلاد، معتبرين أنه إذا لم يساعد اللبنانيون أنفسهم لن يساعدهم أحد.
ثانياً، رفع الأفرقاء المسيحيين اللبنانيين لا سيمّا التيار الوطني الحرّ الغطاء عن «حزب الله»، متسائلين عن بند استثناء المقاومة من نزع سلاح الميليشيات الذي ورد بـ«الطائف».
ثالثاً، الاستغراب من عدم وجود جبهة سياسية معارضة قوية تستطيع أن تقف في وجه «حزب الله» وتعيده إلى رشده اللبناني، مستنكرين غيابها وعجزها عن التكتل حول المصلحة العليا للدولة ضمن جبهة واحدة رغم أن مكوناتها موجودة.
رابعاً، أجمع المنتدون على أن الأمل في التغيير معقود حكماً ووجوباً على انتفاضة «17 تشرين الأول» الشعبية الموحّدة والمسيّسة وطنياً وليس حزبياً، معتبرين أنها وحدها القادرة على التغيير المنشود، وعدا ذلك عبثاً نحاول.
الواقع يقول إن هذه النقاط صعبة التحقيق. فالغطاء المسيحي لـ«حزب الله» يبدو مستمراً، إذ يصر التيار العوني على التحالف معه فيما يبدو موقفاً استراتيجياً غير قابل للنقاش. وما دعوة الوزير باسيل إلى اقتصاد مشرقي سوى تتويج لهذا التحالف، أضف إليه الموقف الأخير للوزير السابق عن القوات اللبنانية ملحم رياشي، حين رأى أن على لبنان التزام الحياد في التجاذب الأميركي الإيراني.
والأمر نفسه ينطبق على عدم تشكيل جبهة معارضة رغم الكلام الجدّي بشأن ضرورتها، ويتضح ذلك من أداء الرئيس سعد الحريري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط وكل قيادات ما تُعرف بحركة «14 آذار».
أما انتفاضة «17 تشرين الأول» المعقودة عليها الآمال وعن حق، فتحوم حول مستقبلها تساؤلات مهمة: هل فقد المنتفضون حيويتهم الثورية واستكانوا أم أن التراجع مرده جائحة «كورونا» أم أن الانقسامات السياسية أدت إلى تفككها؟ يبقى أن هذه الانتفاضة لن تُنتج تغييراً سياسياً جذرياً إذا بقيت تصر على أنها مطلبية فقط وليست سياسية.
ماذا ينتظر اللبنانيون أكثر مما هم فيه للعودة إلى الساحات متسلحين هذه المرة ببرنامج تغييري وطني جامع يرفض سطوة سلاح ولاؤه عابر للبنان ويعرضه لمقايضات لا نفع له فيها عدا عن دوره الحامي للفساد وشراكته في استشرائه؟ لن تبقى أي جهة قادرة على مساعدتنا وحالنا على هذا المنوال بين تعليمات وأوامر حسن نصر الله وحكومة حسان دياب والمعارضة الافتراضية.