بمتابعةٍ دقيقة لآداء السلطة اللبنانية الحالية السائرة على وقعِ الحسابات الإيرانية الإقليمية، يُمكننا التيّقن بأنّها ترتكز بتكتيكاتها على إستغلال الحرص الدولي على الشعب اللبناني المظلوم، فتتعاطى مع المُحاولات الإنقاذية الدولية، كالخاطف الذي يُفاوِض على ثمن رهينته، وكلّما تكثّفت هذه الإهتمامات بالملف اللبناني كلّما سعت السلطة إلى طلب الأثمان الكُبرى مُقابل الإفراج عن بعض جوانب القضايا الإنسانيّة للشعب اللبناني. وفي كلّ مرّة يطرح المجتمع الدولي مبادراتٍ إصلاحية، تعمل هذه السلطة لإطالة أمدْ المفاوضات كسباً للوقت الذي تُدرك أنّه مصيري بالنسبة الى المشروع الإقليمي الداعم لها، وتعتمد من أجل ذلك مُخطّطاتٍ إبتزازيّة بإطلاق مسرحيّات إعلامية هابطة المستوى، ولكنها مكثّفة ويومية وضاغطة، فتعكس إستماتتِها لربح الوقت الضروري لإستمراريّتها و»القاتل لِلُبنان»، دعماً منها لِمُخطّط راعِيها الإقليمي الفقهيّ الهادف الى الجلوس مع الإدارة الجديدة للدولة العُظمى الأكثر تأثيراً دوليّاً وإقليميّاً، والأكثر قدرةً على حماية تفاهماتها، وصيانتِها بِعقوباتِها.
إنّ السلطة اللبنانية المستمرة بفضل المشروع الإستراتيجي الفقهي، لا تُعير إهتماماً للمعاناة الإنسانية والإجتماعية للشعب، وللمآسي والتضحيات وللأحلام العادية للمواطنين، من تعليمٍ عالٍ وسياحةٍ مُزدهرة وثقافةٍ مُنفتحة وفنون حرّة. فكلّ هذه الإعتبارات تسقط أمام نُبْل وقداسة قضيّة المشروع الإقليمي الفقهيّ وأمام إرشادات التكليف الشّرعي والقضية العقائدية المذهبية، الإنتقاميّة التاريخية، والوهمية، المُكْلِفة على حياة ومستقبل الشعوب الخاضعة لسيطرته.
إتّبع المشروع التوسعيّ الفقهيّ سبلاً كثيرة خدمَتْه لِوضع يدِه رويداً رويداً على كافّة مواقع السلطة اللبنانية، فأساليبه القمعية لبيئتِه، والترغيبية والترهيبية لمُعارضيه، والتحالفيّة الفساديّة للمُتراكضينَ إلى السلطة، ساعدت على ترجمة نفوذِه الأمنيّ قوة سياسية ومالية، رفعته الى أن يكون مفاوضاً على الطاولة مع الدول الكبرى القادمة إلى المنطقة، فاتحةً له الإمكانيات لنيل وعد جديد للمنطقة مكان «وعد بلفور» التّاريخي، وبذلك أصبح المُعتمد من قبل الدول الكبرى كالمُتكلّم بإسم الدول العربية الخاضعة لسيطرته من اليمن، إلى سوريا، فالعراق وبالتّأكيد لبنان، والأهم من كل ذلك الناطق الأبرز بإسم المُسلمينَ.
إنّ تبوّأه لهذا الموقع المتقدّم لم يحدث في غفلةٍ من عين القوى الدولية، فالأساليب اللاحضارية واللاقانونية التي إعتمدها تحت معايير الميكيافيللية القائلة «الغاية تُبرّر الوسيلة» لم تشكّل عائقاً أمام هذه القوى الدولية للتّفاوض معه، فالإلغاء الذي إقترفَه بحقّ مُمانعيه، غدا بالنسبة لها ذخيرةً مُستعملة ومنسيّة، فمَرميّةً في مصانع إعادة التّدوير من أجل إستعمالها مُجدّداً ومجدّداً عند الحاجة، طالما لم تُعتبر خطيئةً لا تُغتفر في المعايير الدولية. إنّ الصعود الذي حقّقه هذا المشروع، مُستفيداً من عدم مُمانعة المجتمع الدولي لأسلوبه قد فرض توازناتٍ إقليمية جديدة، وإستجرّ مشاريع توسعيّة أخرى مشتاقة لزمن الإمبراطوريات، وشرْذم الجسم العربي، ورمى بعض الدول العربية التي لم يُصيبها الربيع العربي في أحضان الحمايات الدولية، والأهمّ من كلّ ذلك أنّه فرض معادلةٍ جديدة في النزاع المركزيّ العربي ـ الإسرائيلي، مُحوِّلاً العدائية العربية الإسلامية إلى عدائية داخلية عربية وإسلامية.
إنّ المشروع التّوسعيّ الإقليمي الفقهيّ إستمدّ قوّته الفائضة في لبنان من خلال إعتماده في مراحله الأولى على التقية والتّكتيكات الخفيّة وإخضاع إستراتيجيّاته لأهدافه السياسية التي من خلالها استطاعَ، التّسلّل إلى الوجدان والعنفوان اللبناني بإثارة بعض القضايا البطوليّة، والنجاح في التّسلّق على أحلام بعض الأفرقاء السياسيين اللاّهثين الى السلطة مُقابل نيلِهم حفنةً من المراكز والمواقع والتسويات الفسادية. أمّا في مراحله الحالية فإنتقل هذا المشروع إلى الوضوح والمواجهة والتّفاخر بالأهداف، بسبب شعورِه بفائض القوة والقدرة على تطويع البعض وإزالة البعض الآخر وعزل المُناقضين له فكرياً وإستراتيجياً. وهذه المستجدّات وضعت جميع الأفرقاء اللبنانيين أمام الحقيقة الصعبة التي تفرض قرارات حاسمة، تاريخية ووجودية، ولم يعد الوقت القاتل يُسعِف البعضَ بكذِبهم وتحايُلهم على الحقائق، فالإختبار الجديّ الآن، إنتمائيّ، ولذلك على كل الأحزاب اللبنانية من عقائدية وطائفية وعلمانية وثورية مواجهة هذا التحدّي بوضوح. إنّ استمرار البعض في شعار «كلّن يعني كلّن» أصبح هروباً من الحقيقة والقرار الجريء والإنتماء الوطني. فالبعض من هذا «الكلّن» له مشروع إلغائي لِلبنان، والبعض الآخر يلتزم الخوف والتراجع والرضوخ، والبعض الأخير أخذ خيار المواجهة والتّصدّي. فهلْ مواجهة كل هؤلاء الأفرقاء تجوز أن تكون مُتساوية تحت شعارٍ شامل لا يفرِّق بين المُرتكب والبريء، بلْ يُبرّئ المُرتكب مع البريء؟؟؟
أمّا بعض الأفرقاء الدّاعين الى الدولة المدنية والهادفين للوصول إلى العلمانية، فيترتّب عليهم قبل كلّ شيء مُواجهة المشروع التوسعيّ الفقهيّ الماسِح للعلمانية وللمدنية وللمواطنية وللوطن، وإنّ نجاحَ هذا المشروع لن يُبقي لأحلامهم التطورية والحضارية أي مجالٍ للحياة، فالوطن الذي يسعى اليه، وطنٌ مذهبيّ له عقيدته وأهدافِه.
إنّ الوقت القاتل قد انتهى، وإنّ اللّعب على النيّات قد وصل الى النهاية، وإنّ الأقنعة قد سقطت، وإنّ الطروحات الوهمية «كالتوجّه شرقاً» والأنظمة الإنتخابية البرّاقة والصور الناصعة لبعض «الأبطال الأقزام» لم تعد تُطيل في عمر أفرقاء السلطة. فإمّا المشاركة في الدفاع عن لبنان، وإمّا السقوط الحتميّ أمام المقاومة اللبنانية عن وطن الأرز.