أي مقاربة للحرب المعلنة حيناً، والمخفيَّة أحياناً بين إيران من جهة وأميركا وإسرائيل من جهة أخرى، ينبغي أن تأخذ بالحسبان ثلاث وقائع سياسية في المنطقة منها متحقق ومنها مرتقب:
– تصميم إسرائيل على منع إيران من امتلاك سلاح نووي.
– رغبة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن في العودة إلى الاتفاق النووي.
– عمليات التطبيع الجارية بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
أظهرت إيران صبراً في مواجهة الضربات المتتالية التي تعرضت لها، من اغتيال قاسم سليماني منذ نحو السنة والتفجيرات التي حصلت في الداخل الإيراني، إلى مقتل العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة مؤخراً في عملية نوعية حصلت بالقرب من طهران. تعي السلطات الإيرانية أن سبب هذه العمليات التي حصلت في السنة الأخيرة من ولاية إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، هو سعي هذه الإدارة وإسرائيل لإلحاق أكبر قدر من الخسائر لبرنامجها النووي في حال خسر ترمب، وجعل العودة إلى الاتفاق النووي إن لم يكن مستحيلاً، فأقله صعب. فهدوء النظام الإيراني وقدرته على تحمّل الإذلال وهو المعروف بغطرسته، لا يمكن تفسيرهما إلا لأمله بجديد قد تجلبه إدارة بايدن، فضلاً عن رغبته في البناء على الأولوية التي تعطيها أوروبا للاتفاق النووي وفشل واشنطن في تمديد حظر الأسلحة الأممي المفروض عليه، وبالتالي نراه حريصاً على عدم تزويد واشنطن بأي ذريعة للسعي لتحالف دولي جديد ضده.
إلا أن صبر إيران لا يعني أنها بصدد الانكفاء إلى حد الانسحاب إلى داخل حدودها، فهي ما زالت تفرض إرادتها في المنطقة عبر وكلائها.
ففي لبنان حيث تتعمَّق الأزمة، يواصل حزب الله تمكين نفسه ويضع ثقله باتجاه تغيير الواقع السياسي والتوازنات الداخلية وسط تفكك القوى السياسية الأخرى المحسوبة عليه والمحسوبة ضده. وفي سوريا، يدل تكثيف العمليات الإسرائيلية ضد المواقع الإيرانية والميليشيات الموالية لطهران على تخبط روسيا في المستنقع السوري، وفشلها في الوفاء بتعهداتها لإسرائيل لجهة تقليص نفوذ إيران فيها وإبعاد ميليشياتها مسافة 80 كلم من حدودها.
أما في العراق، فعلى الرغم من أن حكومة مصطفى الكاظمي حققت نجاحات جزئية في كبح جموح الميليشيات الموالية لإيران، فإنها نجاحات غير حاسمة لا تخولنا القول إن الأمور تسير بما لا تشتهي إيران. صحيح أن القوى الموالية لإيران استكانت مرحلياً لتقطيع الوقت وتحسباً لردود أميركية غير محسوبة ومدمرة في آخر ولاية ترمب، إلا أن تحركات مقتدى الصدر المبهمة يبدو أنها تصب في الخانة الإيرانية، ولا تزال الميليشيات المدعومة من إيران تقصف المنطقة الخضراء وتخطف الناشطين السياسيين وتقتلهم. أما في اليمن، فيبدو أن الحوثيّين على تأهب دائم لتنفيذ توجيهات إيرانية، إن كان لجهة التصلب إزاء التوصل إلى حل سياسي للأزمة برعاية أممية أو لجهة إرسال صواريخ باليستية إلى الداخل السعودي.
صبر إيران ترافق مع صمودها في وجه العقوبات لأسباب عدة؛ لعل أولها لامبالاة النظام الإيراني لتداعيات هذه العقوبات على شعبه وللمعاناة التي يعيشها في الجوانب الحياتية كافة، وثانيها قوة وكلائها في الدول التي ينشطون فيها بحيث يجوز القول إن إيران تأخذ هذه الدول ومجتمعاتها رهينة تلعب بها كأوراق على الساحة الدولية، وثالثاً الدعم الذي تتلقاه من الصين التي لديها مصالح تجارية كبيرة معها، وتدرك أن سقوط إيران في الخانة الاستراتيجية الأميركية يشكل ضربة قوية لمشروع طريق الحرير في المنطقة.
وعليه، يصعب تفسير هدوء إيران وعدم ردها على الضربات الموجعة التي تتعرض لها بأنه تراجع بقدر ما هو فهم لحقيقة واقع المنطقة الحالي، ورهان على أن تكون ولاية بايدن أكثر ليونة تجاهها. لكن هل ينجح هذا الرهان الإيراني؟ وهل ستكون إدارة بايدن أكثر ليونة من إدارة ترمب؟
تدرك طهران أن الإدارة الأميركية الجديدة لن تكون أقسى عليها من إدارة ترمب، فهي إما ستكون على غرارها أو أكثر ليناً، علماً بأنها ليست بالسذاجة التي تدفعها للاعتقاد باحتمال العودة إلى الاتفاق النووي بالشروط نفسها التي وقعت عليها زمن إدارة باراك أوباما، وبرفع العقوبات عنها وكأن شيئأً لم يكن. وهي تدرك أيضاً أن بايدن لن ينسف سياسة ترمب برمتها ويبدأ معها من الصفر، كما لن يستطيع رفع العقوبات عنها حتى لو أراد ذلك، خصوصاً تلك المرتبطة بدعمها للإرهاب وسلوكها الإقليمي المزعزع للاستقرار. فالخناق يضيق عليها وسياسات الاقتصاد الملتوية التي تتبعها لن تفيدها طويلاً ولن تسمح بديمومة صمودها المزعوم. إلى هذا، سقطت جميع الشعارات التي استخدمتها كحصان طروادة لدخول الإقليم وأهمها شعار مقاومة إسرائيل ومسحها من الوجود وشعار تمكين أبناء حرب الله والموالين لهفي المنطقة. بمعزل عن إيماننا بعدالة القضية الفلسطينة ووجوب حلها بإنصاف الشعب الفلسطيني، الدول العربية اليوم ملتفتة بمعظمها إلى تأمين مصالحها العليا، وتدخل في هذا السياق عمليات السلام التي جرت مؤخراً بين بعضها وإسرائيل. أما الشعار الثاني، فقد بدأ يخفت في ظل إدراك الشيعة العرب أنهم في النهاية باقون في أوطانهم ولن يفيدهم التسلط الإيراني عليهم.
في المقلب الأميركي، تدل شخصية بايدن، كما الفريق الذي اختاره، على أنه لن يهرول للبدء بمفاوضات مباشرة مع طهران، لكنه في الوقت عينه ووسط سعيه ألا تكون الأيام المقبلة التي تفصله عن موعد تسلمه زمام الحكم في 20 يناير (كانون الثاني) حبلى بالمفاجآت كعمل عسكري أميركي – إسرائيلي في الداخل الإيراني كثر الحديث عنه مؤخراً، يبدو عازماً لإعادة الحياة للاتفاق النووي كما ذكر في مقابلة لصحيفة «نيويورك تايمز» آخذاً بالاعتبار المتغيّرات الدولية والإقليمية، إضافة إلى تطوير إيران لصواريخ باليستية وتزويد أذرعها في الإقليم بها وأدوارها في المنطقة.
من غير المرجح أن يخطو بايدن خطوة تجاه إيران قبل يونيو (حزيران) المقبل موعد انتخابات الرئاسة الإيرانية التي ينتظر أن تطيح مرشحي التيار المعتدل، لكن من المفيد للإدارة الأميركية الجديدة إعادة ترتيب أولوياتها في التعامل معها في ضوء ما ثبت من أنها لاعب غير عقلاني لا يسعى إلى حلول، بل إلى إدامة المشاكل لابتزاز العالم. وخلافاً لما قاله بايدن في مقابلته فإن القنبلة النووية التي تهدد إيران بها العالم ليست سوى بيع لجلد الدب قبل اصطياده، وطريق احتواء إيران تبدأ بالتركيز على الصواريخ الباليستية والدقيقة، التي تشكل مصدر خطر عسكرياً حقيقياً أكبر من القنبلة النووية لانتشارها المحتمل في لبنان وسوريا واليمن بالقرب من إسرائيل ودول الخليج. كل ذلك مع الأخذ بالاعتبار المتغيرات في الداخل الإيراني من ازياد النقمة الشعبية ضد نظام الملالي، وسيطرة الحرس الثوري على الدولة سيطرة شبه كاملة والسياسة المتشددة التي ينفذها المرشد الأعلى لتأمين خلافة تواصل السير على نهجه.
قصارى القول، الجميع بصدد مراجعة ملفاته وحساباته وتموضعه تحضيراً لما هو مقبل من واشنطن وتل أبيب، ولعل بايدن يستفيد من نتائج الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، التي قد تُخرج بنيامين نتنياهو من المشهد السياسي، بما يسمح بمقاربة مختلفة لملفات مزمنة وجديدة في الشرق الأوسط وسط المتغير الأهم راهناً؛ وهو مسار التطبيع المتسارع بين إسرائيل والعرب.