قررت ايران التصعيد في كلّ الاتجاهات. نراها تصعّد حيث تستطيع، أي حيث لا يوجد من يتصدّى لها، كما الحال في سوريا مثلا. في سوريا، خلافا لليمن، ليس مسموحا لإيران بالتصعيد الّا عندما يتعلّق الامر بالحرب التي تشارك فيها منذ عشر سنوات، أي الحرب على الشعب السوري.
عندما يتعلّق الامر بإسرائيل والردّ عليها، ليس مسموحا بايّ تحرّك ايراني من أي نوع. على ايران التصرّف بعقلانية وحكمة في سوريا. يعود ذلك الى ان لا مصلحة لروسيا او للنظام السوري باي ردّ إيراني علي ما تقوم به إسرائيل التي تضرب متى تشاء وكيفما تشاء وحيثما تشاء.
يظهر التصعيد الايراني من خلال تصرّفات تعتقد «الجمهورية الاسلاميّة» انّها تسمح لها بممارسة ضغوط على الادارة الأميركية من اجل رفع العقوبات المفروضة عليها. تحاول القول انّها تمتلك ما يكفي من الأوراق بما يجبر إدارة جو بايدن على القبول بشروطها الواضحة المتمثلة بالتراجع عن عقوبات اقرّتها الإدارة السابقة والعودة الى الاتفاق في شأن برنامجها النووي من دون أي سؤال او جواب.
ثمّة في واشنطن من يوحي لطهران بانّ إدارة بايدن اتخذت قرارا نهائيا بالعودة الى الاتفاق النووي بايّ ثمن كان. في الواقع، هناك من يضحك على طهران التي تعرف جيّدا ان الوقت ليس لمصلحتها وان العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب انهكت اقتصادها. لا تريد «الجمهورية الاسلاميّة» الاعتراف بذلك. لهذا السبب نجد في طهران من يريد تصديق ان في الرغبة الأميركية بالعودة الى التزام بنود الاتفاق النووي ضعف يمكن لـ»الجمهورية الاسلاميّة» استغلاله. ولهذا السبب ايضا، تتظاهر ايران بانّها غير راغبة في عقد اجتماع غير رسمي دعت اليه الدول الاوربية المعنيّة (المانيا وفرنسا وبريطانيا)، وهو اجتماع وافقت الولايات المتحدة على المشاركة فيه.
هدف الاجتماع البحث في إعادة الحياة الى الاتفاق النووي مع ايران والبحث في الاطار الذي ستكون العودة من خلاله. هذا الاطار، الذي حدده الأوروبيون، واضح الى حد كبير. يتفق الاطار مع موقف معلن لوزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن. يصر بلينكن على اتفاق اكثر شمولا واكثر ديمومة. بكلام أوضح، يصرّ على اتفاق يمنع ايران من الحصول على السلاح النووي ويشمل في الوقت ذاته صواريخها الباليستية والمجنّحة وسلوكها خارج حدودها، وهو سلوك يجسّده المشروع التوسّعي الإيراني القائم على استخدام ميليشيات مذهبيّة في لبنان وسوريا والعراق واليمن بشكل خاص.
لا يوجد شكّ في ان إدارة بايدن تريد العودة الى الاتفاق النووي مع ايران الموقّع صيف العام 2015، لكنّ ذلك ليس كافيا كي ترضخ اميركا للشروط الإيرانية في وقت لا تستطيع واشنطن تجاهل عوامل عدّة طرأت في الفترة الممتدّة بين العامين 2015 و 2021. في طليعة هذه العوامل المخاوف العربيّة، خصوصا الخليجية، من العدوانية التي تظهرها «الجمهورية الإسلامية» في كلّ مناسبة. دفعت هذه المخاوف في اتجاه التقارب مع إسرائيل التي تحول وجودها واقعا لا يمكن تجاهله في المنطقة. إسرائيل، المرتبطة بعلاقة عضوية مع اميركا، بغض النظر عن الرئيس فيها، لا تستطيع العيش تحت رحمة الصواريخ الإيرانية التي زادت دقتها في السنوات الأخيرة والتي باتت موجودة في سوريا ولبنان…
اختارت ايران التصعيد في لبنان حيث تسيطر على مؤسسات الدولة وتمنع تشكيل حكومة نظرا الى انّها تريد تأكيد ان لبنان مستعمرة إيرانية. اختارت ايران التصعيد في اليمن حيث يضغط الحوثيون في اتجاه الاستيلاء على مأرب. في الوقت ذاته، لا تتوقّف الاعتداءات الحوثية، أي الإيرانية، على المملكة العربيّة السعودية. لديها رهان خاطئ على تغيير جذري في العلاقة السعودية – الأميركية في ضوء كشف إدارة بايدن التقرير المتعلّق بجريمة تصفية الصحافي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول داخل مقرّ القنصلية السعوديّة. هناك تغيير في السياسة الأميركية تجاه السعودية، لكنّ هذا التغيير يبقى ضمن حدود معيّنة ويبقى مرتبطا بطريقة التعاطي مع الأمير محمّد بن سلمان وليّ العهد السعودي. لن يطال التغيير عمق العلاقة بين واشنطن والرياض نظرا الى وجود مصالح مشتركة كثيرة ومتشعّبة تربط تاريخيا بين البلدين.
لماذا تصعّد ايران في لبنان والعراق وانطلاقا من اليمن؟ يعود ذلك الى انّ ايران تعتقد ان لا مصلحة لها في انكشاف مدى ضعفها، بما في ذلك، مدى تأثير العقوبات الأميركية لادارة ترامب عليها. ليس معروفا الى متى تستطيع السير في المكابرة. المكابرة شيء والسياسة شيء آخر. لو كانت ايران قادرة على المكابرة الى ما نهاية، لما كانت رضخت للامر الواقع المفروض عليها في سوريا حيث ليس امامها سوى التفرّج على ما تقوم به اسرائيل. هذا الامر الواقع لا يمكن الّا ان ينسحب على العلاقة بين واشنطن وطهران والعودة الى الاتفاق النووي، انّما بشروط أميركية – أوروبية. في انتظار هذه العودة ستدفع البلدان التي تمتلك ايران وجودا فيها، مثل لبنان، على سبيل المثال وليس الحصر، ثمنا كبيرا لمشروع توسّعي لا افق له. عفوا، هناك افق لهذا المشروع. يتمثّل الافق بنشر التخلّف والبؤس وثقافة الموت… والتوصّل الى صفقة ما مع «الشيطان الأكبر» الأميركي و»الشيطان الأصغر» الإسرائيلي بشروط «الشيطانين»!