IMLebanon

أبعاد تسريبات ظريف: استبداد الدولة الثورية من تروتسكي للخميني

 

«كان سليماني يفرض شروطه عند ذهابي لأي تفاوض مع الآخرين بشأن سوريا، وأنا لم أتمكن من إقناعه بطلباتي». شكا وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف معاناته مع قائد فيلق القدس التابع لقوات الحرس الثوري الإسلامي الجنرال قاسم سليماني. شكا السياسي الإيراني العبقري الذي شهد له العالم كله بمهاراته التفاوضية. شكا رئيس الدبلوماسية الإيرانية من خضوع دولته لاستبداد فصيل عسكري ثوري لا تجد في اسمه كلمة إيران. نعم، الاسم الرسمي للحرس الثوري هو «قوات الحرس الثوري الإسلامي». شكا، والشكوة لغير الله مذلة، كيف انه كوزير يمثل الشعب الإيراني عليه ان يحصل على موافقة قائد عسكري غير منتخب. فما هو دور الحرس الثوري في إيران؟

 

أسس قائد الثورة الإسلامية روح الله الخميني الحرس الثوري بعد نجاح ثورة الشعب الإيراني على الشاه في ٢٢ نيسان ١٩٧٩، وحدد دوره بحماية نظام الجمهورية الإسلامية. قام نظام الجمهورية الإسلامية على رؤية الخميني لنظرية «الدين الثوري» الذي تحدث عنها المفكر الإسلامي الدكتور علي شريعتي. وهو، أي شريعتي، قد تأثر بنظرية الثورة الدائمة لليون تروتسكي.

 

الثورة الدائمة بالنسبة لتروتسكي هي عبارة عن موجات ثورية متتابعة لتمكين البروليتاريا، طبقة العمال، من الحكم. كانت المعضلة بالنسبة لتروتسكي أن روسيا عشية الثورة البولشيفية لم تكن صناعية كدول أوروبا الغربية. وبالتالي لم تمتلك روسيا عندها طبقة عمال قوية، ناضجة، ومنظمة كمثيلاتها في الدول الصناعية الكبرى. رأى تروتسكي بان على الثورة العمالية ان تتطور على مراحل وذلك عبر موجات ثورية متتابعة عوضا عن ثورة واحدة تؤسس لنظام شيوعي نهائي. كما أكد تروتسكي على ضرورة تصدير الثورة البولشيفية لدول أوروبا الغربية حتى تستقر لها الأمور في الاتحاد السوفياتي. فلا استقرار إذا استمرت أوروبا الغربية بنظام رأس مالي معادي. خسر تروتسكي السلطة امام ستالين الذي لاحقه حتى اغتاله في المكسيك عام ١٩٤٠. سقطت نظرية الثورة الدائمة بشقيها الداخلي، الثورة الدائمة، والخارجي، تصدير الصورة. استخدم ستالين القمع والترهيب لفرض الثورة البولشيفية في الداخل، كما أوقف تصدير الثورة. ولعل تغيير النشيد السوفياتي عن نشيد الأممية أحد أبرز مؤشرات تلك المرحلة.

 

تلقف المفكر الإسلامي الإيراني الدكتور علي شريعتي نظرية الثورة الدائمة وطورها من منطلق إسلامي. فوصف الإسلام بالدين الثوري انطلاقا من النهج الحسيني. فميز من جهة بين التشيع الصفوي المؤسساتي المستبد والتشيع العلوي الثوري العادل، ومن جهة اخرى ميز بين التسنن الاموي المؤسساتي المستبد والتسنن المحمدي الثوري العادل. واعتبر ان التشيع العلوي والتسنن المحمدي متقاربان لحد التطابق. فبالنسبة لعلي شريعتي الإسلام حالة ثورية متجددة دائما. تبحث عن الحق وتسعى للعدالة على المستويين الفردي والاجتماعي. حدد علي شريعتي معالم صراع ديني – ديني وليس ديني ليبرالي. فاعتبر ان الدين التقليدي الذي يسلب الانسان حق النقض والتفكير هو دين قمعي يمكّن المؤسسات التقليدية في المجتمع من التحكم بحرية أفراده. وبالتالي، على المسلمين مواجهته بالدين الثوري الذي يحرر الفكر والانسان من قمع المؤسسات التقليدية ومنها المؤسسات الدينية.

 

في العام ١٩٧٧، توفي في المنفى الدكتور علي شريعتي على إثر نوبة قلبية. اشارت أصابع الاتهام إلى الشاه فتحول إلى اسطورة. عاش وانتشر فكر الدكتور على شريعتي وأثر في «حركة حرية إيران» التي قدمت بعد عامين من وفاته قيادات الثورة الإسلامية على الشاه محمد رضا بهلوي. من أبرز تلك القيادات مهدي بازركان اول رئيس وزراء بعد الثورة، وآية الله محمود طالقاني اول خطيب للجمعة، ومصطفى تشمران وزير الدفاع، وصادق قطب زاده وزير الخارجية. بالإضافة للمقرب من الحركة الامام السيد موسى الصدر الذي غيب قبل الثورة على الشاه عام ١٩٧٨.

 

لا شك ان اية الله روح الله الخميني تأثر بفكر الدكتور علي شريعتي أيضا. فتبنى نظرية الاسلام كدين ثوري. وقد جعل إيران جمهورية إسلامية ثورية، بحيث تقتبص شرعيتها من الثورة الإسلامية. من هذا المنطلق، قام الامام الخميني بتأسيس قوات الحرس الثوري الإسلامي. اسند للفصيل الجديد مهمتان، الاولى حماية الثورة في الداخل، والثانية تصدير الثورة الإسلامية لدول الجوار. بقراره هذا، قام الامام الخميني بمأسسة الثورة. والمفارقة هنا بأن الثورة التي دعا اليها علي شريعتي لتواجه المؤسسات التقليدية القمعية، أصبحت مع الحرس الثوري مؤسسة تقليدية قمعية. فطغت الثورة وأصبحت المستبد الأكبر في الجمهورية الاسلامية. توترت العلاقات بين اركان حزب حركة حرية إيران الذين سعوا لبناء الجمهورية الوليدة ومؤسساتها وبين الحرس الثوري. وقد اختلف الفريقان على عدة أمور دستورية – قانونية وإدارية – تنفيذية فكانت الغلبة للحرس الثوري. اعفي مهدي بازركان من رئاسة الوزراء عام ١٩٨٠ وأمسى بعيدا عن الأضواء حتى وفاته عام ١٩٩٥. توفي آية الله طالقاني عام ١٩٧٩. استشهد مصطفى تشمران عام ١٩٨١. وأعدم صادق قطب زاده عام ١٩٨٢.

 

صدرت الثورة الإسلامية نموذجا ثوريا لدول المنطقة. وبذلك نشأ أفرع للحرس الثوري في لبنان (حزب الله)، والعراق (حزب الدعوة)، وأفغانستان (فاطميون)، وباكستان (زينبيون)، واليمن (أنصار الله)، وغزة (الجهاد الإسلامي)، والبحرين (سرايا المختار). فأصبح الحرس الثوري منظمة دولية عابرة للحدود تسعى للهيمنة على مقدرات وقرارات دول المنطقة، كما هيمن الحرس الثوري على مقدرات وقرار الدولة الإيرانية. فتتحول هذه الدول المدنية لدول ثورية او مقاومة او ممانعة، أي تقتبس شرعيتها من قوات الحرس الثوري او فروعه المحلية. ففي لبنان مثلا، كرست معادلة جيش، شعب، ومقاومة شرعية الثورة الإسلامية وهيمنتها على القرار الداخلي والخارجي اللبناني.

 

كانت نتيجة مأسسة الثورة عبر إنشاء قوات الحرس الثوري كارثية على إيران ودول المنطقة. أولا، اضعفت لحد الانهيار، بل احيانا انهارت، المؤسسات الحكومية في كل تلك الدول وذلك بسبب تحكم الحرس الثوري بالقرارات. ثانيا، انهيار اقتصادي بسبب تسخير كل مقومات إيران لتصدير الثورة والحروب الإقليمية. ثالثا، استشرى الفساد السياسي بسبب نفاق كثير من السياسيين الفاسدين الطامحين للسلطة. فهؤلاء خاضعين بدون شروط لقرارات القوات الثورية في مقابل غض النظر عن فسادهم المالي والسياسي. معادلة خدمت الحرس الثوري والسياسيين الفاسدين على حساب الاقتصاد الوطني. رابعا، نشأت أزمات سياسية ودبلوماسية مع دول المنطقة التي تحاول ان تحافظ على مؤسساتها الحكومية في وجه شيوع النموذج الثوري الإيراني المتسرب عبر تصدير الثورة. خامسا، النجاح النسبي للنموذج الثوري شجع العديد من الحركات المتطرفة على نسخه. فقامت العديد من مجموعات الإرهابية على اختلاف عقائدها باستخدام اليات عمل قوات الحرس الثوري في المنطقة وخاصة في الدول التي ضعفت مؤسساتها الحكومية.

 

لا يمكن ان يتعايش منطق الدولة المدنية الحديثة مع منطق الدولة الثورية بشكل عام والإسلامية بشكل خاص. شكوى وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف ما هي إلا صرخة أطلقها في وجه الاستبداد الثوري. تكلم ظريف بلسان حال كل دول المنطقة وشعوبها التي تعاني من انهيار في مؤسساتها واقتصادها ومن فساد سياسييها وصراعات فيما بينها تهدد امن مواطنيها والمنطقة. سقط تروتسكي علي يد ستالين قبل تجربة نظريته عن الثورة الدائمة. وبعد تجربة الخميني، اسقطت الثورة الاسلامية الدائمة منطقة الشرق الأوسط في جحيم الفوضى. للخروج من هذا الجحيم الثوري، لا بد لنا إلا ان نحول شكوى ظريف لصرخة عالية مدوية. لا للثورة الإسلامية. لا لمأسسة الثورة. لا لاستبداد الثورة. نعم للعودة لمؤسسات الدولة الحديثة. لا للشرعية الثورية. نعم للشرعية المدنية. لا لمرجعية القيادة الثورية. نعم لمرجعية الشعب.

 

*باحث ومحاضر في جامعة مكماستر، كندا