خدع النظام الإيراني نفسه قبل أن يحاول خداع العالم بأن الجمهورية الإسلامية استثناء، وبأنها تؤثر ولا تتأثر، وتمتلك ما يكفي من مناعة تحميها من انتقال عدوى الأمراض السياسية والاجتماعية والثقافية المنتشرة بين دول وشعوب المنطقة إليها، ودفعه إيمانه المفرط بالاستثناء الإيراني، إلى تبني لغة استعلائية استخدمها في الداخل مع معارضيه وهم أغلبية ومع الخارج الذي استعداه، فحرم الأول من عوائد ثرواته وتحول الثاني إلى هدف للغزوات. وفي السنوات الأخيرة غَذَّت معادلة الاستثناء والاستعلاء مشاريع الطموحات التوسعية، عززها تواطؤ أوبامي وغض طرف أوروبي، وانشغال إقليمي باحتواء ارتدادات عنف مارسته أنظمة مستبدة ضد شعوبها، ومكافحة إرهاب تكفيري كان نظام طهران شريكاً مضارباً في صناعته ورعايته، واستخدامه لضرب استقرار جواره، الذي طالما كان موجوداً باستمرار في مرمى الطموحات التوسعية الإيرانية، طموحات جعلت النظام يحرم مواطنيه من أدنى ضروريات العيش بكرامة، وحولت الشعب الإيراني إلى جيش من الفقراء ومحدودي الدخل، فبلغ عدد من هم دون خط الفقر 30 مليوناً، فيما البطالة باعتراف الحكومة بلغت 20 في المائة على المستوى العام، فيما وصلت في بعض المحافظات إلى مستوى 60 في المائة، ونتيجة للحالة الاقتصادية المتردية وانعدام الفرص وفقدان الأمل في التغيير، لجأ الإيرانيون إلى تعاطي المخدرات، وبلغت نسبة المدمنين 12 في المائة، وفي الوقت الذي كان المواطن الإيراني عاجزاً عن تأمين قوته اليومي، ظهرت إلى العلن فضائح الفساد المتفشي بين رموز السلطة وخلافاتهم على تقاسم المكاسب والمغانم وسرقة المال العام، وجاءت فضائح أهل السلطة في لحظة لم يعد فيها النظام قادراً على إقناع الإيرانيين بخطابه، وفقدت مسوغاته العقائدية مكانتها الدينية والثقافية في المجتمع، فظهرت عليه علامات الشيخوخة المبكرة رغم أن الثورة لم تبلغ بعد سن الأربعين، كما لم تسعف عمليات التجميل الخارجية في تحسين صورته الداخلية، بعد سنوات من الاستثمار الخارجي، فشل في إقناع مواطنيه بأن احتلال دمشق والسيطرة على بيروت وبغداد والتدخل في صنعاء قوة لإيران ورفعة لمكانتها، وصدم بإصرار الشعب على الربط بين شقائه المعيشي وتكلفة نفوذ النظام الخارجي، وهو بالفطرة يؤمن بأن «الزيت عندما يحتاجه البيت يحرم على الجامع»، فاكتشف أن خبزه وزيته يوزعان في لبنان وسوريا واليمن والعراق، وأنه رغم سكوته عن هذا الهدر فرض عليه القبول بضريبة الفقر والفساد والاستبداد.
في إيران اليوم يعتقد صناع الاستبداد أنهم نجحوا في تفكيك قواعد الحرية، وأنهم انتزعوا من المواطنين القدرة على الانتفاضة، لكنهم نسوا أن الجوع عندما يتقاطع مع مطالب الحرية يشكل أخطر ظواهر التمرد، لذلك تفاجأ النظام الذي اعتقد أنه نجح في إسكات معارضيه وسيطر على طموحات المواطنين بحجم غضب الشارع المستعد للرد بالعنف على العنف، ففي حساباته أن من كانوا في المعارضة على خلفية أحداث 2009 تشتتوا إلى 3 فرق، الفرقة الأولى دجّنت وأصبحت داخل السلطة، يمثلها نائب الرئيس جهانغير وبعض الوزراء من التيار الإصلاحي، والفرقة الثانية بقيت خارج السلطة، ولكنها ملتزمة الصمت بعدما تمت معاقبتها بقسوة خلال الفترة السابقة، وهي تلتف الآن حول الرئيس المتهم بأنه لم يظهر الشجاعة السيد محمد خاتمي، أما الفرقة الثالثة وهي الأخطر والتي لم تزل ملاحقة وكوادرها في السجون، فهم أعضاء الحركة الخضراء أنصار زعيم المعارضة رئيس الوزراء السابق ميرحسين موسوي، لكن وجودها محصور في طهران وبعض المدن الكبرى، وفي اعتبار النظام أن من تبقى من الحركة الخضراء ليس له أي تواصل معتبر مع ما تَشَكل من حركة مطلبية في الأقاليم البعيدة عن العاصمة ومدن الأطراف، وهو بعد اندلاع الاحتجاجات يبذل مجهوداً أمنياً كبيراً لكي لا يحصل أي اندماج بين حركة الاحتجاجات المطلبية والاحتجاجات الطلابية، حتى لا تتبلور قيادة تعوض للعمال قلة خبرتهم في قيادة الاحتجاجات، وفي المقابل تؤمن للطلاب زخماً شعبياً لم يكن موجوداً في 2009.
في أقل من 24 ساعة وبعد أول مسيرة احتجاجية تبلور الموقف السياسي للمنتفضين الذين سموا لأول المرة الديكتاتور باسمه، وأعلنوا أنهم تجاوزوا شعارات المرحلة السابقة، واتخذوا قرار التصعيد السريع، لأنهم على قناعة بأن النظام غير قادر على تغيير سلوكه، وأن مجرد قبوله القيام بأي إصلاحات أو تقديم تنازلات هو أشبه بمن قرر أن يحفر قبره بيده، ما يعني أن الأيام المقبلة حبلى بالمفاجآت، ولكن تبقى المفاجأة الكبرى أن الإيرانيين كسروا حاجز الخوف، وهم يعلمون عواقب الأمور، ويعرفون أنهم يواجهون نظاماً عقائدياً يمثل أسوأ أنواع الاستبداد.