Site icon IMLebanon

إيران بعد النووي

بمعزل عن مؤدّيات المبادرة أو المبادرات التي تقوم بها طهران لحلّ الأزمة السورية، إلّا أنّ الجديد واللافت دخولها للمرّة الأولى بهذا الشكل الحيوي على خط إنهاء الأزمة السورية، في خطوةٍ تؤشّر إلى دورها الجديد بعد النووي.

أهمّية المبادرة الإيرانية لا تتعلق اليوم بجوهرها، بل بمجرّد قيامها بهذه المبادرة في مؤشّر إلى انتقالها نحو مرحلة جديدة في رسالةٍ مزدوجة: رسالة إلى المجتمع الدولي بأنّها ستكون شريكة أساسية له في صناعة السلام في المنطقة. ورسالة إلى المجتمع الإقليمي والعربي والسنّي بأنّها فتحَت صفحة جديدة بعد النووي، وأنّ الحُكم يُفترض أن يكون على أفعالها لا نواياها.

والفارق الجوهري بين طهران ما قبل النووي وما بعده هو انتقالها من مرحلة تعطيل كلّ الحلول والتسويات لمصلحة استمرار العنف، إلى مرحلة المساهمة الفعّالة في إنتاج الحلول في المنطقة.

وهذا الانتقال مرَدُّه إلى أمرَين: لأنّ الاعتراف الدولي بدورها الإقليمي يتوقّف على طبيعة هذا الدور الذي يجب أن يكون بالاتّجاه السِلمي لا الحربي، ولأنّ تثبيت نفوذها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان يَفترض إنهاءَ النزاع في هذه الدوَل، لأنّه خِلاف ذلك يَبقى هذا النفوز متنازعاً عليه، وتبقي الأمور مفتوحة على شتّى الاحتمالات.

وقد نَجحت طهران في امتلاك أوراق قوّة تجعل منها لاعباً أساسياً في المنطقة، فلا سلام من دونها، ولكن لا سلام أيضاً بشروطها، وهي تدرك ذلك انطلاقاً مِن ميزان القوى القائم، إذ على رغم نوويتِها وتمدُّد ميليشياتها، ليس تفصيلاً أن تصبح شريكاً للسُنّة والعرب في رسم معالم المنطقة واتّجاهاتها.

فالحدَث اليوم هو هذا التحوُّل في الدور الإيراني، ولذلك لا يُفترَض التوقّف كثيراً أمام جوهر الأفكار التي تطرَحها وتقدّمها لحلّ الأزمة السورية، هذه الأفكار التي ستتبلوَر تباعاً وتتبدّل لتتلاءم مع مصلحة كلّ الأطراف، وتحديداً المملكة العربية السعودية، وذلك من أجل الوصول إلى مساحة مشتركة معها.

وإذا كان من الطبيعي أن تبدأ إيران مبادرتَها ببقاء الرئيس السوري بشّار الأسد في موقعِه، وأن تقارب توسيع القاعدة التمثيلية من خلال حكومة وحدة وطنية، وإعادة كتابة الدستور تمهيداً لإعادة توزيع الصلاحيات، فإنّه من غير الطبيعي أن تنتهيَ من حيث بدأت، لأنّ أحداً لا يتصوّر أساساً أن تستهلّ مبادرتها بإزاحة الأسد من موقعه، وبالتالي مضمون الأفكار الواردة في المبادرة الرباعية والمفتوحة على التطوير هي في محلّها اليوم.

وهذا المسار الذي بدأته إيران لا يعني أنّ التسوية في سوريا أصبحت على قاب قوسين من التحقّق، إنّما يَعني أنّ طهران التي كانت تلعَب دور رأس الحربة في المواجهة في سوريا، أدخَلت تعديلاً على دورها بالاتّجاه الذي يجعلها راعيةً للحلّ في دمشق، بدلاً من الحرب.

فإيران تقف اليوم في منطقة وسطى بين مواصلة قتالها في سوريا دفاعاً عن أوراقها، وبين التهيئة لمرحلة جديدة تُنهي العنفَ في هذه الدولة وغيرها من الدوَل، ولكنّها في العمق دشّنَت مساراً جديداً سيَبدأ بالتبلوُر والتوَسّع بشكل تدريجي، إلّا أنّ تحقيق هذا المسار للغاياتِ المرجوّة منه يتطلب إشعارَ المكوّن السنّي في المنطقة بأنّ التسوية لن تكون على حسابه، لأنّ أيّ شعور من هذا النوع يَعني التأسيس لفصول جديدة من النزاع.

ولكنّ أبرزَ العوامل التي ما زالت تَحول دون تحقيق التسوية في سوريا تتمثّل بالآتي:

أوّلاً، الحديث عن أيّ تسوية يبدأ بعد إنهاء حالة «داعش» من الوجود.

ثانياً، لا تسوية إلّا مع الشريك الفعلي على الأرض، وليس «الشريك» الذي يختاره النظام، وهو شريك صوري لا حقيقي، الأمر الذي يَستدعي إعادة تقوية «الائتلاف السوري المعارض» و»الجيش السوري الحر»، ما يتطلّب مرحلة طويلة.

ثالثاً، الرئيس السوري شكّلَ عنوانَ تحَدٍّ كبيراً للطائفة السنّية، ويَستحيل إعادة توحيد سوريا في حال استمراره في السلطة، والذي يكون في حالة واحدة، وهي التقسيم الذي لا يبدو بدوره سهلَ التحقيق في ظلّ رفض سعوديّ مطلَق للتقسيم.

رابعاً، حكومة الوحدة الوطنية تشَكّل تفصيلاً إذا لم يكن القرار الأمني والعسكري والاستراتيجي للدولة بعهدة هذه الحكومة، وليس بعهدة النظام. وطالما الشيء بالشيء يُذكر، ما أهمّية الشراكة في لبنان طالما القرار الاستراتيجي بيَد «حزب الله» لا الدولة اللبنانية؟

وعليه، لا أفقَ لأيّ تسوية قريبة في سوريا، لأنّ إيجاد الحلول للعوامل المشار إليها أعلاه وغيرها مسألة بغاية الصعوبة، وإنّما التحدّي الأساس يبقى على طهران ومدى قدرتها على إنتاج تسويات عادلة ومتوازنة لا تخفي في طيّاتها مشاريع هيمنة بحُلّة جديدة تمَهّد لانفجار جديد.