Site icon IMLebanon

إيران و«حزب الله»: لبنان أهم من فلسطين

 

 

مهما تباينت الآراء والمواقف، وعلت أصوات المعترضين على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل الذي يسمح للبنان بالإفادة من ثروات غازية ونفطية في مياهه، يبقى الاتفاق بحد ذاته وبمعزل عن تجييره لصالح السلطة اللبنانية الحاكمة وراعيها «حزب الله»، واعتباره من إنجازاتهما، اختراقاً نوعياً استراتيجياً في زمن الانهيار المالي والاقتصادي.

لن يعيبه أن ينظر إليه كتنازل لإسرائيل عن كيلومترات من هنا وهناك؛ كونه إذا وصل إلى خواتيمه فسوف يحقق نتيجتين رئيستين تغطيان على عيوب كثيرة قد تشوبه: الأولى الهدوء والسلام المستدام اللذان سيضمنهما على طول الحدود مع إسرائيل، مهما ادعى «حزب الله» وكابر بأن الاتفاق يقتصر على الحدود البحرية. والثانية إيرادات استخراج الغاز والنفط ومستلزماته على البر.

وقد سبق أن كتبت في أغسطس (آب) الفائت في هذه الصفحة، أنه «إذا تم التوصل إلى صيغة ما للترسيم والبدء في استخراج الغاز، فهذا يعني أن تفاهمات باطنية قد حصلت عنوانها المقايضة، تقوم على السماح للبنان و(حزب الله)، وهو في قلب الحكم والحكومة، بالإفادة من مداخيل غازه ونفطه، والإقرار الضمني من الدول الغربية والولايات المتحدة وبعض العرب بنفوذه في الداخل اللبناني، وتمكين مكتسباته وتحسينها وشرعنتها، مقابل تهدئة بين الحزب وإسرائيل، لا تُعرف تفاصيلها بعد، تضمن الهدوء المستدام على الحدود بين البلدين، وتنزع فتيل اندلاع عمل عسكري كبير أو صغير، لا يرغب فيه أي طرف من الأطراف الإقليمية أو الدولية».

ومن دون وجود حقول نفطية في المياه المتنازع عليها، والمزمع استخراجها والإفادة من مداخيلها بمليارات الدولارات، لما كان للاتفاق هذه الأهمية الاستراتيجية؛ إذ إن وجود هذه الثروة يحتم على الطرفين اللبناني (و«حزب الله» هو المعني الأول) والإسرائيلي، حماية ما يستلزمه استخراجها من منشآت في البحر والبر، وتأمين حسن سير عملها وحمايتها في كلا البلدين، ما يعني – وبالخط الأحمر العريض- نهاية العمليات العسكرية، وأنه بمثابة «اتفاق هدنة رقم 2»، على ما وصفه الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل.

ومن هذا المدخل، سوف يجلب الترسيم أمن الحدود الجنوبية للبنان، وعودته إلى دوره على البحر المتوسط جراء شراكات متوقعة مع قبرص واليونان وتركيا ومصر وغيرها لاحقاً، تساعده على الخروج من نفق الانهيار المالي والاقتصادي، إضافة إلى عودة تدريجية للاستثمارات من لبنانيين وأجانب، بعد اطمئنانهم بأن الحرب مع إسرائيل أصبحت مستبعدة.

وفي السياق نفسه، تبقى الخطابات المتشددة لـ«حزب الله» التي يؤكد فيها احتفاظه بسلاحه «المقاوم» بحجة تحرير مزارع شبعا، موجهة لجمهوره في الداخل، بعد أن أضاف إليها مهمة «مقاومة» أخرى، هي حماية الثروة النفطية، مع ادعائه أنه وراء تحصيلها واسترجاعها.

ينسحب الأمر نفسه على المعارضة الإسرائيلية وتهديدات بنيامين نتنياهو؛ إذ تبقى في سياق الحملات الانتخابية، وسوف تخبو مع إعلان النتائج؛ سواء بفوزه أو بخسارته. فإذا فاز فمن غير المرجح أن يتراجع عن اتفاق بهذه الأهمية لإسرائيل، وإذا خسر فستصبح معارضته من دون جدوى. وكما أن الاتفاق هو نعمة من جهة، فقد يتحول إلى نقمة من جهة أخرى؛ لأن تداعياته السلبية متعددة الأوجه، ولن تبددها لا عائدات الثروة الغازية، ولا تغييب مخاطر العمليات الحربية بين إسرائيل و«حزب الله».

إن توقيت الإعلان عن التوصل إلى الاتفاق يصب من دون مواربة في خدمة السلطة الحاكمة، وتحالف المحور الإيراني بكل أطيافه وطوائفه، وبشكل خاص «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، حزب رئيس الجمهورية، وجاء كأنه مكافأة على مآثرهما لما حل بالبلاد والعباد على مدى السبع عشرة سنة الماضية، وبخاصة السنوات الست الأخيرة.

وللتذكير فقط، واشنطن هي راعية هذا الترسيم، وقدمه الرئيس جو بايدن بنفسه هدية إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، بمكالمة هاتفية استمرت 10 دقائق كما يقال. وأتى بمثابة اعتراف ضمني وتسليم بسطوة «حزب الله» وإيران على لبنان، وتناسٍ شبه كامل للمطالبات بالإصلاحات، والتهم بالفساد، وسطوة السلاح غير الشرعي، إلى آخر المعزوفة.

تغلبت المصالح الأميركية والغربية بعامة من دون أن يرف لها جفن على معاناة غالبية اللبنانيين جراء ممارسات السلطة الحاكمة نفسها، التي سوف توكل إليها إدارة البلد، وما ينتظر من مداخيل الغاز والنفط لاحقاً، وأعمال بناء المنشآت الضرورية على البر والبحر لاستخراجه.

هذا لا يعني أن واشنطن سترفع «حزب الله» عن لوائح الإرهاب وتعفيه من العقوبات، إنما ستسمح له بواسطة حلفائه باقتسام المنافع وتمكينه بالتالي على الصعد كافة، وإخراجه من الضائقة المالية التي تعانيها راعيته إيران، وانعكاساتها عليه وعلى بيئته الحاضنة في لبنان.

أما الشريك الآخر «التيار الوطني الحر»، وهو الممسك بملفات الطاقة منذ عقدين تقريباً، فجاء الترسيم ونتائجه بمثابة طوق النجاة، بعد التشظي الذي لحقه في السنوات الأخيرة زمن تولي رئيسه رئاسة الجمهورية، وسيزداد التصاقاً بـ«حزب الله»، وملامح التبعية بادية من الأداء المنسق معه ومع سياساته في الداخل والخارج، ومن التناغم الدقيق خلال وبعد الانتخابات التشريعية، وانسحب على الرئاسية، ليظهر جلياً في الجلستين الأخيرتين للبرلمان لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.

ولا يستفيد من العلاقة بين التيار والحزب طرف واحد فقط، فالحزب بات في هذه المرحلة الجديدة بحاجة أكثر من أي وقت للغطاء المسيحي الذي يؤمنه له التيار، وبات بمقدورهما معاً الإفادة من المخزون المالي المتوقع الحصول عليه، وتحويله إلى فائض قوة سياسية تعوّض عن دور فائض القوة العسكرية الذي بات دون جدوى، أقله في المديين القريب والمتوسط. وهذا ما يحتم على الفريقين الاستماتة للاحتفاظ بالسلطة وتمكينها في المرحلة المقبلة، رئاسياً وحكومياً وبرلمانياً، وفي الإدارة العامة، وربما أيضاً مستقبلاً دستورياً وقانونياً.

المحصلة أن تراكم الخسائر وتراجع المعارضة أديا إلى هذه النتيجة، ولا ينبغي إلقاء اللوم على الأميركيين أو الفرنسيين؛ إذ في نهاية الأمر التغيير وتداول السلطة في نظر هؤلاء هو عن خبث أو سذاجة أو عن حق، مسؤولية اللبنانيين. ولعله آن الأوان بعد خمسة عقود من الأزمات والحروب أن نحفظ الدرس، بأن الهموم الأميركية والغربية بشأن لبنان هي أولاً أمن إسرائيل، وثانياً الاستقرار الداخلي الأمني والسياسي والاقتصادي، أياً تكن الجهة القادرة على حفظه وتأمينه، وبحسبهم هذا الاتفاق يحقق الهدفين معاً. أما بشأن إيران و«حزب الله» فيتبين أكثر فأكثر أن الاحتفاظ بلبنان أهم عندهم من استرجاع فلسطين.