Site icon IMLebanon

ضربة إستباقية أو “تقاصف” لأيام؟

 

 

ليس صحيحا إعتماد المبدأ العام القائم دوليا وتاريخيا خلال الأزمات الكبرى على الواقع الخطير والمتعلق بثأر إيران وحزب الله من إسرائيل. ويرتكز هذا المفهوم والذي تعتمده المدارس الديبلوماسية عادة على انه كلما جعلنا الوقت يتقدم أكثر من دون ردة فعل كلما تراجعت مخاطر المواجهة أكثر فأكثر.

 

ويعود السبب لهذا الإستثناء الآن أن المسألة مرتبطة بالحفاظ على الهيبة والتي يرتكز عليها مبدأ الإستمرار، واستطرادا فإن عدم الرد على هاتين “الصفعتين” القويتين سيعني تلقائيا بدء العد العكسي للتآكل والسقوط، وبالتالي لا بد من الرد، لكن السؤال كيف، وبأي توقيت، وما هي الخطوة التي ستلي؟

وخلال الساعات الماضية ظهرت مؤشرات أكدت المؤكد. ذلك أن ذهاب حزب الله الى إخلاء كل مقاره المعروفة في الضاحية الجنوبية لبيروت، حتى السياسية منها، من كل محتوياتها من أجهزة كومبيوتر وغيرها، إنما يعني أن الضربة الإنتقامية قائمة وأن قيادة الحزب تتهيأ للأسوأ في حال الرد الإسرائيلي على الرد. كذلك فإن التعاطي الدولي الغربي على الساحة اللبنانية يحاكي إمكانية (وليس حتمية) حصول السيناريو الأسوأ. أليس هذا ما يفسر التحضيرات الأميركية لآلية ترحيل مواطنيها في حال الحرب؟ ولو أنه لا بد من الأخذ في الإعتبار حساسية المشهد الإنتخابي الأميركي وانعكاسه على المرشحة الديموقراطية في حال علق الأميركيون في لبنان وسط حرب قائمة، وهو ما يدفع للتحوط تجاه أكثر السيناريوهات سوءا، والتي قد تكون “مفتعلة” بهدف تغليب حظوظ مرشح على آخر. ولا حاجة للتطرق الى الخطوط المفتوحة بين ترامب ونتنياهو. وكون أنظار العواصم العالمية وخصوصا الشرق أوسطية شاخصة على النزاع الإنتخابي الأميركي والذي قد يشكل منعطفا في الخيارات، فلا بد من نظرة سريعة على التطورات الإنتخابية الأميركية قبل ولوج ملف الحرب في المنطقة.

وثمة من يغيب عنه أن ما بات يفصل عن بدء التصويت المبكر عبر البريد للإنتخابات الأميركية ما يقارب فقط أسابيع ثلاث. وهو ما سيعني عمليا بدء العد العكسي الفعلي وصولا الى الخامس من تشرين الثاني أو اليوم الكبير والذي يفصلنا عنه أقل من ثلاثة أشهر. وهي فترة محفوفة بالمخاطر والأفخاخ والأهداف التي تتجاوز حدود المنطقة، خصوصا وأن ترامب يجد صعوبة كبيرة في التكيف مع الديناميكية الجديدة الذي أحدثها استبدال جو بايدن بكامالا هاريس، ما جعله يخسر نقاطا ثمينة باتت تهدد فوزه.

 

ولا تقتصر المخاطر على الشرق الأوسط هنا فقط. ذلك أن الإنطباع الغالب هو أن هذه الزلازل المتلاحقة في الشرق الأوسط والتي أحدثت تحولات هائلة وعميقة من المنطقي أن يجري استكمالها بتركيز معادلة إقليمية عريضة تشكل العنوان العريض لخريطة النفوذ السياسي الجديدة للمنطقة. وبات ثابتا وجود اقتناع بأن تثبيت هذه المعادلة سيواكب دخول الرئيس الجديد الى البيت الأبيض أيا كانت هويته. فالإنطباع الغالب لدى الأوساط الديبلوماسية في واشنطن بأن المنطقة مقبلة على تطورات نوعية، وهو ما يرفع احتمالات ارتفاع منسوب المخاطر الى الحد الأقصى.

 

فعلى سبيل المثال ينقل عن دينيس روس الديموقراطي اليهودي والخبير في شؤون المنطقة قوله أن نتنياهو سعى منذ أكثر من عقدين وما يزال لدفع واشنطن الى خوض حرب مع إيران وأذرعها.

ويخطط البيت الأبيض لإرسال بعض المسؤولين الى المنطقة خلال الأيام المقبلة. لكن إذا حصل تطور عسكري فمن الممكن تعديل البرنامج المطروح. والسبب أن الإدارة الديموقراطية تخشى من ذهاب نتنياهو الى تنفيذ ضربة إستباقية ضد إيران أو حزب الله، أو حتى اغتيال قيادات رفيعة أخرى إذا ما حصل على إثباتات بأن الإنتقام أصبح وشيكا، وهو ما سيؤدي حكما الى الدخول في نزاع أوسع وأخطر، خصوصا وأنه تم خلال الأسابيع الماضية خرق السقوف وتجاوز الخطوط الحمر التي كان جرى وضعها. والأهم ما يهمس به بعض الديبلوماسيين بأن البيت الأبيض يعرف جيدا بأن إيران لا تريد الحرب والشواهد على ذلك متعددة. أما في المقابل فعلى العكس يريد نتنياهو الحرب ويسعى اليها. لكن المشكلة أن واشنطن لا تقر بذلك علنا. وفي السياق نفسه ينقل أيضا عن القائد السابق للسنتكوم الجنرال المتقاعد جوزف فوتل قوله أن نتنياهو يركز على الحدود الشمالية من زاوية أن الحرب فيها تخدمه استراتيجيا وسياسيا.

 

ولا بد من ملاحظة المناخ الإسرائيلي الداخلي حيث ترتفع الأصوات المطالبة ليس فقط بالحرب بل خصوصا بتوجيه ضربة استباقية ضد حزب الله وإيران. واللافت أن بيني غانتس والذي استقال قبل نحو شهرين من الحكومة طالب بضربة استباقية تشمل بنى تحتية مدنية في لبنان، ولاقاه في موقفه زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد. ويرتكز أكاديميون وإعلاميون على أن الحرب مع حزب الله آتية لا محالة عاجلا أم آجلا، وأن كلفتها لاحقا ستكون أكبر.

 

وفي إسرائيل يبحث الجيش عن طريقة لإعادة ترميم قدرة الردع لديه ومكانته داخل المجتمع الإسرائيلي، وإبقاء مكانه مؤثرا في صناعة القرار. فمما لا شك فيه أن “قدسيته” تضررت كثيرا في عملية “طوفان الأقصى”. وبالتالي فإن نتنياهو بات معتادا على تجاوز الخطوط الحمر التي ترسمها إدارة بايدن، وآخرها كان بتنفيذ مجزرة “الفجر” والتي لم يأبه فيها نتنياهو للإلتزام بمطلب بايدن بعدم استخدام القنابل النوعية الأميركية من دون مراجعة واشنطن أو على الأقل بعدم استهدافها لمدنيين. ما يعني أن القلق قائم من تدهور الاوضاع الأمنية في لبنان ولو من دون الإنزلاق الى حرب مفتوحة. فهنالك من يعتقد أن الرد الحتمي لحزب الله ولو على أهداف عسكرية ستقابله إسرائيل باستهداف مواقع عسكرية للحزب. وبين الرد والرد المقابل قد نشهد أياما عدة من التقاصف العنيف، هذا إذا لم يبادر نتنياهو في اتجاه تنفيذ الضربة الإستباقية.

وعلى رغم من ذلك وبعيدا عن ضجيج القنابل هنالك من يرى حضورا متزايدا للدولة العميقة إن على مستوى الإنتخابات الرئاسية أو حتى على مستوى إعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة. وكان لافتا في هذا الإطار القرار المفاجئ لإدارة بايدن برفع الحظر عن بيع الأسلحة الهجومية للسعودية بعد ثلاث سنوات من العمل به قيل يومها أنه بهدف الضغط لوقف حرب اليمن. وكان الخلاف يومها قد وصل الى ذروته مع تلويح واشنطن بإزالة نحو ثماني شبكات دفاع جوي من نوع “باتريوت” مضادة للصواريخ ونظام “ثاد” الأكثر تطورا. وقيل أن للقرار علاقة بالإنتخابات الأميركية وحماسة السعودية لوصول ترامب. لكن اختصار القرار بهذا الجانب لا يبدو حكيما. فهنالك من يتحدث عن الدور السياسي والمالي الأساسي للسعودية في المرحلة المقبلة. وهذا ما يفسر الى حد بعيد الموقف السعودي الجانبي في المرحلة الراهنة، وهو ما تعتبره العواصم الغربية ضروريا تمهيدا للدور المحوري لاحقا.

 

وفي توصيف “مهضوم” لطريقة نظرة الدولة العميقة الى الخريطة الشرق أوسطية بأن لواشنطن قاعدتين عسكريتين هما اسرائيل وتركيا وحاملة طائرات هي قبرص وبنك مركزي هو السعودية، وأن لهذه الدول أدوارها ومصالحها والتي ستعمل واشنطن على مراعاتها في إطار التوازنات الإقليمية الدقيقة مع “البعبع” الإيراني.

 

وتكرر هذه الأوساط رؤيتها لخريطة النفوذ الجديدة وهي التي تقوم على احترام عدم العبث بالإستقرار الداخلي الإيراني ولكن في موازاة تعديل إنفلاش النفوذ الإيراني الإقليمي، بعكس طموح طهران بتثبيت هذا النفوذ وشرعنته في إطار مؤسسات دستورية جديدة.

ومن هنا يمكن قراءة الدخول الروسي على الخط، وحيث تريد موسكو الإعتراف بنفوذها الكبير في سوريا، وهو ما دفع للحديث همسا عن تباعد في العلاقة الإيرانية ـ الروسية في سوريا.

 

فروسيا تتطلع الى حضور أكبر في سوريا وتأثير إيراني أقل، وهو ما يمكن تحقيقه إذا تمت المصالحة بين دمشق وأنقرة بعيدا عن طهران. وللمفارقة فإن النزاع المشتعل بين واشنطن وموسكو في أوكرانيا والذي أضعف حظوظ ترامب الرئاسية إنقلب تقاطعا في المصالح بينهما في سوريا. وموسكو التي تدرك جيدا مستوى التأثير الإيراني داخل الدولة السورية تسعى لما يشبه إعادة تأهيل النظام السوري بثوب جديد وعلى المستويين الإقليمي والدولي طالما أن مسار التطبيع انطلق واجتاز محطات عدة.

 

هو إذاً ترتيب المسرح للمرحلة المقبلة والتي من المفترض أن تبدأ اندفاعتها مع دخول الرئيس الجديد الى البيت الأبيض. والأشهر الفاصلة ستشهد ترتيبات متسارعة وفق هذا العنوان. لكن التساؤل الأصعب هو الذي يقلق الساحة اللبنانية حول ما إذا كانت السخونة الفائقة مدخلا ضروريا لترتيب الساحة؟