ليس مهمّا ان يعود محمّد جواد ظريف الى ممارسة مهمّاته كوزير للخارجية الايرانية ام لا. لن تغيّر عودته شيئا في ايران، كذلك تمسّكه بالاستقالة التي أراد التعبير من خلالها عن امتعاضه من تجاهله الكامل في اثناء زيارة بشّار الأسد لطهران.
في انتظار معرفة هل عاد عن استقالته فعلا، هناك امر واحد بات معروفا وثابتا. هذا الامر، الذي لم يعد سرّا منذ فترة طويلة، يتمثّل في انّ من يتحكّم بالسياسة الخارجية في ايران هو «الحرس الثوري» وانّ كلّ الذين في الواجهة السياسية يعملون في خدمة «الحرس الثوري» الذي وضع يده على ما بقي من مؤسسات الدولة الايرانية التي كانت قائمة عبر التاريخ القديم، منذ ما قبل عهد الشاه.
لم تعد الآن من حاجة الى وزير الخارجية مثل ظريف موجود في موقعه منذ العام 2013. لم تعد الحاجة لا الى ظريف ولا الى القناع الذي تحرّك خلفه طوال سنوات. جاءت الحاجة الى التخلي عن القناع المبتسم بعدما فقد «المرشد» علي خامنئي الذي يدير اللعبة السياسية في ايران بادّق تفاصيلها، ومعه قادة «الحرس الثوري»، ايّ امل في إعادة الحياة الى الاتفاق المرتبط بالملفّ النووي. هذا الاتفاق الذي فسّرته ايران، مند البداية، على طريقتها وعرفت كيف تستفيد منه الى ابعد حدود بفضل سذاجة باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري… فضلا عن عداء الرئيس الاميركي السابق لكلّ ما هو سنّي في العالم واعجابه المنقطع النظير بايران. دفع الشعب السوري ثمنا غاليا للنظرة الاوبامية الغريبة الى الإسلام والمسلمين وتمييزه بين إرهاب سنّي وإرهاب شيعي!
بغض النظر عن بقاء ظريف في الخارجية ام لا، ستكون هناك في الايام القبلة سياسة إيرانية اكثر هجومية في اتجاه الخارج وحتّى في اتجاه الداخل الايراني. ستكون هناك سياسة مكشوفة اكثر من دون حاجة الى قناع من هنا وآخر من هناك ونكات تصدر عن ظريف يرافقها تظاهر بالتهذيب. باختصار شديد، لم تعد من حاجة الى محمد جواد ظريف واشباهه.
لن يكون لبنان بعيدا عن هذه السياسة الهجومية المكشوفة، هو الذي عانى منها منذ فترة طويلة. عانى منها في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته وفي مرحلة التمهيد لاغتيال الرئيس رفيق الحريري في السنوات 2003 و2004 و2005. وقتذاك، كانت الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الايراني في المنطقة بفض الاحتلال الاميركي العراق وتقديم جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني البلد على صحن من فضّة الى «الجمهورية الإسلامية».
هناك شعور في لبنان بعودة هذه الهجومية الايرانية المكشوفة التي ظهر انطباع بانّها خفت، وان قليلا بعد الافراج عن تشكيل الحكومة اللبنانية برئاسة سعد الحريري أواخر الشهر الماضي. ليس طبيعيا ان يجد «حزب الله» انّ كلّ طلباته لُبّيت من خلال تشكيل الحكومة، خصوصا طلب اختراق السنّة والدروز بعد ذلك الاختراق الكبير الذي يمتلكه الحزب في الجانب المسيحي… وان يلجأ الى حملة ليس لها سوى هدف واحد. هذا الهدف هو تأكيد انّه لن يسمح، ومن خلفه ايران، في إعادة الحياة الى برنامج الانماء والاعمار في لبنان. هذا برنامج مرتبط بثقافة الحياة اوّلا. هذا برنامج أعاد وضع لبنان على خريطة المنطقة والعالم في مرحلة معيّنة. الأخطر من ذلك، بالنسبة الى ايران، انّه كان خلف هذا البرنامج شخص اسمه رفيق الحريري تحوّل من زعيم سنّي، الى زعيم وطني لبناني، الى زعيم عربي، والى شخصية عالمية تستطيع التحدث الى كبار هذا العالم والدخول معهم في تفاهمات…
من هذا المنطلق، ليس المقصود في الحملة التي يشنها «حزب الله» وآخرون من أعضاء مجلس النوّاب، الذين لا يعرفون ان الناس تعرف ماضيهم، على الرئيس فؤاد السنيورة شخص السنيورة فقط. وقد عرف السنيورة في مؤتمره الصحافي يوم الجمعة وضع «حزب الله» في مكانه الصحيح بصفة كونه اقام دولة داخل الدولة واستولى على مواردها.
الأكيد ان السنيورة يُعتبر بالنسبة الى هؤلاء هدفا بحد ذاته، خصوصا اذا اخذنا في الاعتبار دوره في الصمود الطويل والتصدّي المباشر لعملية التغطية على جريمة اغتيال رفيق الحريري والجرائم الأخرى. لكنّ الأكيد أيضا ان الهدف الحقيقي مما يسمّى «الحملة على الفساد» هو القضاء على أي اثر لإنجازات رفيق الحريري. لذلك، يردّد كلّ من يدّعي انّه يشنّ حملة على الفساد تاريخ محدّد هو السنة 1992. ففي تلك السنة، اصبح رفيق الحريري رئيسا للوزراء.
بين 1992 و 2005، سنة اغتياله، لا يزال المجرمون المعرفون يتصرّفون بما يوحي بانّ لديهم خوفا من ان يخرج رفيق الحريري من مكان ما عن طريق مجموعة ما في داخل الحكومة، ويبني مشروعا يكشف الفارق الشاسع بين ثقافة الحياة وثقافة الموت. لذلك كان هذا الإصرار على حرب صيف العام 2006 وكان بعد ذلك الاعتصام في وسط بيروت من اجل تقطيع اوصال المدينة والانتقام من الذي بنّى العاصمة مجددا وأعاد الحياة الى قلبها الذي هو قلب لبنان.
لم يتغيّر شيء منذ 2005، لا يزال قاتل رفيق الحريري يعمل من اجل جعل العالم ينسى الجريمة. هذا ما يفسّر تجدّد الحملة المكشوفة المتجددة على لبنان التي يرافقها تركيز خاص على فؤاد السنيورة، كونه يرمز الى الحلقة الضيّقة التي كانت تحيط برفيق الحريري، إضافة الى دوره بعد 2005.
من سوء الحظ الذي يقف وراء الحملة على الفساد، التي هي حملة على حكومة سعد الحريري من داخل هذه الحكومة، ان السنة 2019 هي غير السنة 2005. وضع ايران في سوريا لم يعد مرتاحا. سيتوجب عليها الخروج منها عاجلا ام آجلا. كذلك، لا يمكن القول انّ العراق مستعد للقبول بان يكون مستعمرة إيرانية في ايّامنا هذه. راحت الايّام التي كان الايراني والأميركي يقرران وحدهما من الذي يحكم العراق كما في عهد نوري المالكي.
هل تحاول ايران القول للعالم بانّ الإمساك بلبنان يشكّل ورقة مهمّة على الصعيد الإقليمي تعوّض عن خسائر العراق وسوريا؟ الاهمّ من ذلك كلّه، ان ايران نفسها، كنظام، باتت تبحث عن كيفية الخروج من ازمة مستعصية في أساسها الفشل الاقتصادي على كلّ صعيد.
من الواضح ان عملية تأديب محمد جواد ظريف، عبر تجاوزه كوزير للخارجية، والاتيان ببشار الأسد خلسة الى «المرشد» والى رئيس الجمهورية لن يحلّ أي مشكلة من مشاكل «الجمهورية الإسلامية». تدفع ايران حاليا ثمن وجود إدارة أميركية لا ينفع معها لا الإمساك بلبنان ولا اظهار مزيد من الحقد على رفيق الحريري. سياستها القائمة على نقل ازمتها الداخلية الى لبنان لن تفيدها بشيء، على الرغم من الاضرار الكبيرة التي ستلحقها مجددا بلبنان عبر ميليشيا مذهبية بات دورها معروفا في كلّ ما يتعلّق بسلسلة من الجرائم تصب في تحقيق هدف واحد اسمه الحاق لبنان بايران.