IMLebanon

إيران وروسيا بين أوهام الغلبة وشروط الأغلبية

لا يختلف موقف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في هذه المرحلة من الأزمة السورية عن موقف السلطان العثماني محمود الثاني في حرب سوريا٬ حيث فشل سنة 1831 في إقناع الدول الأوروبية بالوقوف إلى جانب السلطنة في مواجهة زحف الجيوش المصرية على بلاد الشام٬ مما اضطره إلى توقيع اتفاقية «كوتاهية» مع إبراهيم باشا في مايو (أيار) سنة 1833 .ثم استعان مباشرة بالروس٬ حيث وقعت السلطنة حينها معاهدة سرية مع القيصر الروسي (نيكولاي الأولى) سمحت بموجبها للأسطول الروسي بعبور المضايق التركية باتجاه البحر المتوسط٬ وبالتزام البلدين بالدفاع عن بعضهما في حال تعرضهما لخطر خارجي أو داخلي٬ فمعاهدة «هنكار إسكله سي» التي ُعقدت في يوليو (تموز) 1833 بين العثمانيين والروس التي ساعدت الطرفين على تجاوز تداعيات الحرب الروسية العثمانية العاشرة (1828 ­ 1829 (كانت الحيلة الوحيدة المتوفرة أمام العثمانيين لمواجهة محمد علي باشا٬ وفي تعويض التخلي البريطاني ­ الفرنسي عن مساعدتها.

ومما لا شك فيه أن «هنكار إسكله سي» كانت حاضرة في لقاء إردوغان وبوتين في بطرسبورغ٬ حيث نجحا في إعادة ترتيب العلاقة بينهما بعيًدا عن الموقف في سوريا٬ وتجاوزا تداعيات حادثة إسقاط طائرة «السوخوي 24«٬ إضافة إلى اعتناء الروس بالموقع الجغرافي لتركيا كممر نوعي لعبور الطاقة إلى الأسواق العالمية٬ والاعتراف بمكانة أنقرة التاريخية والدينية كمعبر إلزامي باتجاه المشرق.

وعليه٬ من لقاء بطرسبورغ إلى اجتماع أستانة٬ تتجه موسكو وفقًا لمقتضيات حماية مصالحها الجيو ­ ستراتيجية مع أنقرة إلى استخدام لغة أكثر صرامة مع من شاركها الحرب على الشعب السوري٬ وعلى ما يبدو فإن الكرملين الذي لجأ إلى استخدام لغة خشنة مع بشار الأسد ومنعه من زيارة مدينة حلب وإلقاء خطاب الانتصار٬ تجنًبا لاستفزاز أنقرة وفقا لتسريبات صحافية٬ سيضطر في المرحلة المقبلة إلى أن يشرح للإيرانيين وربما بطريقة خشنة أي ًضا٬ أن روسيا ليست جمعية خيرية جاءت إلى سوريا فقط من أجل إنقاذ نظام الأسد من هزيمة عسكرية شبه مؤكدة٬ بعد سيطرة المعارضة المسلحة على منطقة جسر الشغور٬ وفتحت الطريق باتجاه معاقل أنصاره في مناطق الساحل السوري٬ بل إن التدخل العسكري الروسي تمكن خلال سنة من تغيير موازين القوة على الأرض٬ وهو الأمر الذي عجزت عنه إيران وميليشياتها الطائفية طوال 5 سنوات٬ ما يسمح للكرملين من موقع الصانع الفعلي للانتصار في حلب من وضع الأجندة التي يراها مناسبة لمصالح بلاده في الدرجة الأولى٬ وهذا ما فعله تما ًما عندما أجبر نظام الأسد على توقيع اتفاق وقف الأعمال العدائية على جميع الأراضي السورية٬ وفقًا للشروط التي تم الاتفاق عليها بين عسكريين روس وممثلين عن الجيش السوري الحر برعاية تركيا وغياب إيران. فبينما كان كبار المسؤولين الإيرانيين يبشرون دول وشعوب المنطقة عشية أعياد رأس السنة الجديدة بولادة شرق أوسط جديد وفقا للتوقيت الإيراني٬ بعد تحقيقهم ما يعتبرونه انتصا ًرا استراتيجًيا في حلب سيغير مجرى الأحداث في المنطقة والعالم٬ كان المستشار القانوني للجيش السوري الحر أسامة أبو زيد يعلن عن التوصل إلى اتفاق لوقف النار بين المعارضة السورية ونظام دمشق٬ إعلان جعل مصير شعار «ما بعد حلب» الذي روجت له طهران ومعها الأسد أشبه بمصير شعار «ما بعد حيفا».

ضمنًيا يدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جيًدا أن ما بعد حلب هو رغبة إيرانية في ملاحقة المعارضة المسلحة حتى آخر معاقلها في إدلب وجنوب دمشق٬ وهو ما لا طاقة لموسكو على تحمل تبعاته محلًيا وإقليمًيا ودولًيا٬ كما أن بوتين العارف بالحدود المتاحة لاستخدام القوة٬ لم يغامر في السيطرة على مدينة حلب لولا الاتفاق مع الأتراك٬ الذين سمحوا له بتحقيق انتصار هو بأم ّس الحاجة إليه٬ انتصار سيمكنه من الجلوس على طاولة المقايضات الدولية مع الإدارة الأميركية الجديدة٬ وهو ما يمكن وصفه بتواطؤ الأغلبية الذي لا يمكن لإيران أن تحققه للروس. ففي تشابك المصالح الروسية ­ التركية٬ وتباين المصالح الروسية ­ الإيرانية٬ يظهر العامل الأغلبي وتأثيره على

السياسة في منطقة الشرق الأوسط٬ ففلادمير بوتين الذي تعلم من تجربة باراك أوباما الفاشلة٬ عندما قرر التنكر لمصالح الأغلبية العربية والإسلامية في المنطقة لصالح مشروع الأقليات والهويات الإثنية والمذهبية٬ تسبب في حالة من الفوضى أدت إلى انفجار العنف الطائفي والعرقي٬ ما سيدفع الروس في لحظة تحول دولي بدأت بانتخاب الجمهوري دونالد ترامب رئي ًسا للولايات المتحدة٬ الذي من الأرجح أنه سيعيد إحياء دور واشنطن ونفوذها من خلال العودة إلى الثوابت التقليدية للسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة٬ التي تأخذ بعين الاعتبار مصالح الأغلبية٬ سيدفعهم (أي الروس) إلى إعادة رسم تحالفاتهم بما يضمن الحفاظ على مكتسباتهم وحماية مصالحهم في سوريا والمنطقة٬ التي باتت في معظمها بحاجة إلى شرط اعتراف الأغلبية بها وتقبلها٬ وهو ما يفرض عليهم الابتعاد المكلف والصعب عن إيران.