لا مصلحة لأي طرف في المنطقة في مزيد من التصعيد، اللهم الّا اذا كان التصعيد جزءا من سياسة تقوم على ممارسة لعبة الابتزاز. من يعتقد ان في استطاعته ممارسة التصعيد للتغطية على مشروع توسّعي يستند الى اثارة الغرائز المذهبية، انّما يخدم في واقع الحال القوة التي يعتبرها عدوّا له، اقلّه في خطاباته العلنية. هذه حال ايران مع الولايات المتحدة. كانت اميركا المستفيد الاوّل من كلّ ما تقوم به ايران وذلك منذ قيام «الجمهورية الإسلامية» في العام 1979. كلّ ما في الامر ان اعتماد دول المنطقة على الولايات المتحدة زاد منذ بدأت ايران تتحدّث عن «تصدير الثورة» الى الدول المجاورة والى دول بعيدة عنها مثل اليمن، على سبيل المثال وليس الحصر.
أظهرت تجارب الماضي القريب ان المنطقة كلّها، خصوصا منطقة الخليج، في حاجة الى التعقل قبل ايّ شيء آخر. ماذا يعني التعقّل؟ يعني ان يعرف كل طرف حجمه وان يحترم موازين القوى القائمة إقليميا ودوليا بعيدا عن الكلام الفارغ الذي لا يؤدي الى اي نتيجة ذات طابع إيجابي. على العكس من ذلك، يولّد الكلام الفارغ الذي يقتصر على تهديدات من نوع تلك التي اطلقها الرئيس الايراني حسن روحاني الى سلبيات على كلّ صعيد. ما الذي يمكن ان ينتظره الرئيس الايراني، الذي حصل على تأييد «الحرس الثوري» عندما يهدّد دولا أخرى بمنعها من تصدير نفطها ردّا على الاجراءات الاميركية في حقّ ايران؟ هل تمتلك ايران ما يكفي من القوة لمواجهة الولايات المتحدة في حال قرّرت بقاء الخطوط البحرية التي ينقل عبرها النفط، بما في ذلك مضيق هرمز وباب المندب مفتوحة؟
حسنا، تبيّن ان حظ ايران سيىء مع الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب في حين كان حظها جيّدا مع باراك اوباما. نظريا، تغيّرت السياسة الاميركية كلّيا. قاد دونالد ترامب في واقع الحال انقلابا على سياسة سلفه باراك أوباما. قرّر الرئيس الاميركي وضع حدّ للمشروع التوسّعي الايراني وصولا الى حرمان «الجمهورية الإسلامية» من امكان تسويق نفطها. بدل ان يسعى النظام الايراني الى التعاطي بواقعية وعقلانية مع التحدي الاميركي الذي بدأ بخطاب عرض فيه الأسباب التي تدعو الى محاصرة ايران ومعاقبتها والحقه بانسحاب من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني، اذا به يلجأ الى التصعيد.
تلعب ايران عبر اللجوء الى التصعيد لعبة اميركا ولا شيء آخر غير ذلك. اذا كانت تريد بالفعل ابعاد اميركا عن المنطقة، هناك طريق قصير يمكنها من تحقيق هذا الهدف. تتمثّل الخطوة الاولى على هذا الطريق القصير بالتساؤل ما الذي يمكن ان تفعله ايران خارج حدودها مباشرة عبر «الحرس الثوري» او عبر الميليشيات المذهبية التابعة لها لتهدئة مخاوف جيرانها؟
في النهاية، ما الذي تريده ايران في لبنان او سوريا او العراق او البحرين او اليمن. لماذا اصرّت على إقامة خلايا إرهابية في الكويت، كانت خلية العبدلي ابرزها، وما دخلها في دعم رجل الدين الشيعي هذا او ذلك في السعودية.
حظ ايران جيّد مع الولايات المتحدة وسيىء في أحيان أخرى. كان سيئا عندما اكتشفت في العام 1987 مثلا، انّ ليس في استطاعتها اغلاق مضيق هرمز وخطوط النقل البحرية. يفترض في ايران التعلّم من تلك التجربة واستيعاب انّها ليست دولة عظمى تمتلك اساطيل تجوب البحار. انّها دولة تعتمد كلّيا على صادرات النفط ولا شيء آخر أساسيا غير ذلك.
في العام 1987، كانت الحرب العراقية – الايرانية تشارف على نهايتها. معروف جيدا ان دول مجلس التعاون الخليجي دعمت العراق في تلك الحرب وذلك من اجل حماية امنها. قررت ايران الانتقام من الكويت الذي كان يدعم العراق في حينه وهددت اسطول النقل البحري الكويتي. كان ردّ فعل القيادة الكويتية وقتذاك الطلب من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة رفع علميهما على الناقلات الكويتية. لم تتجرّأ ايران بعد ذلك على الاقتراب من أي ناقلة كويتية. فهمت ايران حجمها. اجبرتها الظروف على ذلك. ما يمكن استنتاجه من كلّ ذلك ان اللغة الوحيدة التي تفهمها ايران هي لغة القوّة. في حال اظهر دونالد ترامب انّه جدّي بالفعل في التعاطي معها، لن يكون من مجال آخر سوى الدخول في مفاوضات جدية تؤدي هذه المرّة الى اتفاق جديد. يضع مثل هذا الاتفاق الملفّ النووي الايراني على الرفّ نهائيا من جهة ويعالج مسألتين في غاية الاهمّية من جهة أخرى. المسألتان هما الصواريخ الباليستية والسلوك الايراني في المنطقة، بما في ذلك دعم الميليشيات المذهبية التي لا هدف لها سوى تفتيت دول المنطقة. يظلّ ما يحدث في لبنان وسوريا والعراق واليمن خير دليل على ذلك، أي على ما هي السياسة الايرانية على ارض الواقع.
كانت الحرب العراقية – الايرانية تقترب من نهايتها في اواخر العام 1987. سهّل ذلك انعقاد قمّة عربية في عمان حضرها صدّام حسين وحافظ الأسد الذي تعاطى مع التطورات الإقليمية بواقعية كبيرة بعدما ايقن ان رهانه على ايران في الحرب استنفد اغراضه. ايران نفسها بدأت تدرك ان عليها تجرّع «كأس السمّ» على حد تعبير آية الله الخميني. وقد فعل ذلك في 1988.
ما يبدو طبيعيا في السنة 2018 هو ان تتعظ ايران من احداث 1987. لم يكن في استطاعتها في ثمانينات القرن الماضي متابعة الحرب على العراق لولا الدعم الاميركي لها. ضربت اميركا وقتذاك عصفورين بحجر واحد. انهكت العراق وايران وجعلت دول المنطقة اكثر اعتمادا عليها. كان العناد الايراني على الاستمرار في الحرب اكبر خدمة إيرانية للولايات المتحدة التي استنزفت العراق الى ابعد حدود في وقت لم يكن البلد يمتلك للأسف الشديد قيادة تتمتع بالقدرة على استيعاب موازين القوى في المنطقة والعالم، إضافة الى عدم استيعابها لمعنى التحولات الدائرة في ايران نفسها في مرحلة ما بعد سقوط الشاه. فالحرب العراقية – الايرانية كانت الخدمة الأكبر للخميني الذي انتهز تلك الفرصة لاستثارة العنصرية الفارسية وارسال الجيش الذي لم يكن يثق به الى جبهات القتال في الوقت ذاته.
منذ اليوم الاوّل لسقوط الشاه، كانت ايران المستفيد الاوّل من السياسة الاميركية. كانت شريكا في الحرب الاميركية على العراق في 2003 وكانت الرابح الاوّل من تلك الحرب التي أعطت مشروعها التوسّعي انطلاقة جديدة. اخذت هذه الانطلاقة بعدا اكبر في عهد باراك أوباما الذي لم ير سوى «الإرهاب السنّي» في المنطقة تاركا الإرهاب الآخر الذي تمثله ميليشيات ايران يسرح ويمرح.
سيترتب الكثير على مدى جدّية إدارة ترامب في التعاطي مع ايران. الثابت ان ايران لن تجد ما تفعله سوى التراجع في حال اكتشفت ان هناك إصرارا اميركيا على محاصرتها. فكلّ مسؤول إيراني، اكان متطرفا او معتدلا، علما انّ لا فارق يذكر بين المعتدل والمتطرف، يعرف ان اميركا لم تكن يوما عدوّا لإيران، بل كانت حليفا دائما لها، وان كلّ الكلام عن «الموت لاميركا» كان للاستهلاك المحلي او الإقليمي. ما الذي يزعج اميركا من قمع الايرانيين في ايران نفسها وماذا يزعجها من تفتيت الدول العربية الواحدة بعد الأخرى وهو الدور الذي لا تعرف ايران لعب غيره؟