Site icon IMLebanon

إيران وقواعد الإشتباك الأميركية

 

شكّل مصرع قائد فيّلق القدس قاسم سليماني بغارة أميركية على مطار بغداد مؤشراً واضحاً على المنعطف الخطير الذي دخلته العلاقات الأميركية الإيرانية. المفاجأة توازي بوقعها قيمة الهدف الثمين الذي حققته. إنّ تفاصيل الرحلة الأخيرة لقاسم سليماني من دمشق الى بغداد تؤكّد بوضوح أنّ الرجل المحترف ذو الخبرة الميدانية الكبيرة والراعي لكلّ أذرع إيران المسلحّة ومصدّر ثورتها والمدرك لقدرات الإستعلام الأميركية، كان مطمئناً أنّه ليس على لائحة الأهداف الأميركية. الرجل المنتقل من مطار دمشق، الخاضع لأجهزة المخابرات الروسية التي لديها أكثر من نقطة إختلاف مع طهران أو أجهزة المخابرات السورية التي أضحت كالسلطة مشرذمة ومخترقة ومتعدّدة الولاءات وربما من أجهزة أخرى غربية، إلى مطار بغداد المراقب أميركياً وعراقياً، في وقت لم تعدّ فيه بغداد كما كانت عندما تقاسمتها طهران مع واشنطن، لم يتّخذ أي تدابير إستثنائية تتفق وحجم المخاطر المفترضة، مما يعني أنّه كان مطمئناً لقواعد الإشتباك القائمة بين طهران وواشنطن التي أسقطته قبل أن يُدرك أنها تغيّرت فعلاً.

 

وبعيداً عن هول الخسارة المعنوية والعسكرية التي مُنيت بها طهران وخطابات الإنتقام التلقائية والعالية النبرة في بغداد وبيروت وطهران لا بدّ من التوقف عند الملاحظات التالية:

 

أولاً، إنّ ردة الفعل العراقية الرسمية التي تمثّلت بطلب مجلس النواب من الحكومة إلغاء الإتفاقية العسكرية والأمنية مع واشنطن، لا تتجاوز ما يتلاءم مع العملية المفاجئة ومحاولة توجيه ردات الفعل المتوقعة بعيداً عن الداخل العراقي. وبصرف النظر أنّ حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها عادل عبد المهدي غير قادرة على إلغاء هذه الإتّفاقية، فإنّ مفاعيلها العسكرية والإقتصادية والأمنية تتجاوز العراق، لا سيما في إقليم كردستان المتّصل بسوريا وتركيا ونفط دير الزور والتوازن مع روسيا. هذا بالإضافة أنّ الحراك في الشارع العراقي كان موجهاً بالدرجة الأولى نحو التسلّط الإيراني الأمني والإقتصادي على العراق ودور ميليشيات الحشد الشعبي في الفساد القائم، وبالتالي فإنّ التعاطف والإستنكار اللذين أبداهما العراقيون لعملية الإغتيال ومطالبتهم بخروج القوات الأجنبية من العراق عائد الى الخوف من تحوّل العراق الى ساحة مواجهة بين واشنطن وطهران وليس للقبول بالوجود الإيراني. وهذا ما يفسر تراجع مقتدى الصدر، وهو زعيم الكتلة النيابية الأكبر في البرلمان والمحرّك الأقوى لحركة الإحتجاج عن مشروع «المقاومة الدولية» الذي أعلنه إثر الحادثة وتصريحه بوجوب تغليب الحلول الدبلوماسية، وتحذير رئيس البرلمان محمد الحلبوسي من نتائج إلغاء الإتفاقية وهو الذي قال متوجّهاً الى البرلمان أنّ القرار كان شيعياً وليس عراقياً في توصيفه لغياب النواب الكرد والسّنة عن الجلسة، مما يجعل القرار قراراً على الورق ليس إلا.

 

ثانياً، إنّ ردود الفعل الأوروبية على الإغتيال التي اتّسمت في البداية بالدعوة الى التهدئة، ما لبثت أن حذّرت من لجوء إيران الى مزيد من التخلي عن إلتزاماتها النووية. ألمانيا وفرنسا وبريطانيا التي ابتدأت من الإقتراب من موقف الولايات المتّحدة وأدانت الدور العدائي الذي تقوم به إيران عبرالحرس الثوري، كما أدانت عبر اجتماع وزراء الخارجية وعبر اجتماع الناتو الإعتداء على قوات التحالف، دعت إيران الى الإمتناع عن أعمال العنف والأنشطة المزعزعة للإستقرار وذكّرت بأنّ المعركة بمواجهة الإرهاب لا زالت مستمرة في العراق وعلى الحكومة العراقية التجاوب. أوروبا التي تعاني بالرغم من مكابرتها من التهديدات الإيرانية والتجاوزات التركية لا تستطيع الذهاب أكثر في تحدّي إرادة الولايات المتّحدة وحلفائها الإقليميين.

 

ثالثاً، لم يُتح لطهران لغاية الآن استيعاب نتائج سقوط قاسم سليماني الحلقة الأهم في منظومة أذرعها العسكرية، وهي المدركة أكثر من سواها للمخاطر وللوضع الحرج الذي تعيشه. الهجمات المبعثرة على مواقع قوات التحالف وإلقاء القذائف على محيط السفارة الأميركية في بغداد لا يرقى الى مستوى ردّة الفعل. خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله وإطلاقه حملة بإسم محوّر المقاومة لإخراج الجيش الأميركي من المنطقة واعتبار القوات الأميركية أينما وجدت أهدافاً مشروعة، يعكس أحد أهم نتائج مقتل قاسم سليماني وغياب البديل. فإعلان لامركزية المعركة ضدّ الولايات المتّحدة وقواعد الإشتباك من بيروت، وتوجيه الأوامر للفصائل المواليّة لطهران في العراق واليمن يفوق دور حزب الله في المنظومة الإيرانية كما إنه يفتقر الى الحيثية التنفيذية. ثم هل يمكن الإعتبار أنّ عناصر حزب الله مدعوون لإطلاق النار على فرق التدريب الأميركية الموجودة دائماً في لبنان من ضمن مذكرات التفاهم المعقودة مع الجيش اللبناني؟ ومن يستطيع تحمّل تبِعات ذلك في حال حصوله؟ أم أنّ خطاب الأمين العام يمكن إعتباره نوعاً من محاولة ملء الفراغ لحين صدور تعليمات من طهران؟

 

تبقى إحتمالات الرد على مقتل سليماني ملكاً لطهران وحدها بالرغم من ضيق الأفق وحراجة الوضع الإيراني، ولكنّ طهران تدرك أن تغيير قواعد الإشتباك الإيرانية الأميركية التي فاجأت طهران لم يتخذها الرئيس الأميركي في لحظة إنفعال أو مجون، بل اتّخذته المؤسسة العميقة في الولايات المتّحدة. هذه المؤسسة هي التي صاغت حركة طالبان ومدارسها الأصولية، وهي التي أسقطت شاه إيران وصاغت آليات الصدام السني الشيعي، وهي من أسقط دول المنطقة في صراعات إثنيّة ودينية وهي من تشارك مع طهران في السيطرة على العراق بعد إسقاط صدام حسين ورعى تصدير ثورتها. هذه المؤسسة التي أسقطت قواعد الإشتباك السابقة مع سوريا وبنت شراكة جديدة مع روسيا وأخرجت بريطانيا من الإتّحاد الأوروبي ماضيّة اليوم في صياغة جديدة للعلاقات مع إيران.

 

طهران التي تفتقد موقعها المميّز تسعى برغم مصابها لفرض شراكة جديدة مع الولايات المتّحدة، فهل يذهب العقل الإيراني المكابر الى مغامرة تحدي قواعد الإشتباك الأميركية؟