هل تعاني أوروبا من أزمة بنيوية هيكلية بدأت تنعكس في بعض من تصرفات قادتها وشعوبها٬ التي تتنكر اليوم بشكل أو بآخر٬ لأهم قيم أوروبا الحضارية٬ وفي المقدمة منها حرية الإبداع؟
يدرك الأوروبيون جيًدا أن الاتفاق النووي الإيراني الغربي سيتيح للأسواق العالمية بضع مئات من مليارات الدولارات للاستثمار في وقت تعاني فيه القارة العجوز من أزمات مالية متتالية.. هل أذلّت الاستثمارات أعناق الأوروبيين؟
لا يمكن أن يصدق أحد شكل وأداء التعاطي الأوروبي مع الإيرانيين٬ بدًءا من إيطاليا٬ مروًرا بفرنسا٬ ووصولاً إلى ألمانيا٬ وهو أمر لا يمكن فهم أبعاده إلا في ضوء نظرة أوسع عن أوروبا في عصر العولمة٬ كما يتحدث عنها البروفسور البريطاني الشهير أنطوني جيدنز٬ المدير السابق لمركز تحليل الإقصاء الاجتماعي٬ وزميل كلية كينغ بجامعة كامبريدج٬ والذي يرى ملامح انهيار الاتحاد الأوروبي على الأبواب٬ ومرد ذلك أن نموذج أوروبا الاجتماعي الذي كان بمثابة درة التاج قد أخذ في الأفول٬ ولا سيما في ظل ارتفاع معدلات البطالة٬ والأزمات المالية التي عصفت بأوروبا٬ وفي مقدمتها أزمة اليونان٬ وصولاً إلى أحدث الفصول المتمثلة في إشكالية اللاجئين.
هل أزمة أوروبا إذن «حفنة دولارات»؟
بالقطع٬ إنها أعرض من ذلك٬ لكن تبقى المعضلة الاقتصادية في الطليعة والمقدمة٬ ولهذا نرى تسابًقا أوروبًيا على دولارات روحاني٬ وفي سبيلهاُتغطى التماثيل في متحف «الكابيتول»٬ كي لا تخدش مشاعر الضيف المنتفخة محفظة أوراقه المالية٬ بما سيفرج عنه العم سام٬ أما أوروبا التي تصدع العالم العربي ببكائيات على حقوق الإنسان٬ فلا تشغلها مشاهد البشر المعلقين شنًقا في شوارع طهران عبر الرافعات.. أي ازدواجية أوروبية نحن بصددها؟
يقول روحاني إنه لم يطلب من مضيفيه أن يفعلوا ذلك٬ وهذه كارثة في حد ذاتها٬ فلو فعل الرجل لربما كانت هناك فسحة من المقاربة المنطقية بين عوائد الاستثمارات الإيرانية في إيطاليا وتغطية كتلة حجرية٬ وإن كانت لا تزال تمثل زمن النهضة الأوروبية.
لكن روحاني لم يطلب وهنا المأساة الفعلية فهل تغيرت العقلية الأوروبية إلى هذه الدرجة٬ لتقرر أخفاء إحدى التحف الفنية في الثقافة الغربية؟
يقول رينزي رئيس الوزراء الإيطالي إنه لم يعِط تعليمات في هذا الصدد. وعندما سئل وزير الثقافة فرنشيسكيني نفى بدوره أي مسؤولية له بالأمر٬ فهل أضحى الأمر تياًرا ذهنًيا أوروبًيا باطنًيا يتجاوز قيم أوروبا من أجل الاتفاقيات الاقتصادية؟
من جانب آخر٬ فإن الحديث عن عودة المعتدلين إلى السلطة في إيران مع قدوم روحاني٬ مما يزيد الأمل في استئناف الحوار على أساس الاحترام والانفتاح وعلى أفكار التعايش بين الأديان والشعوب٬ هو من ضروب الأحاديث الطوباوية٬ البيورتيانية٬ الطهرانية٬ والتي لا مكان لها في عقلية «البازار الإيراني».
ربما كان الفرنسيون في واقع الأمر أكثر صدًقا مع قيم الجمهورية العلمانية٬ برفضهم إعداد موائد غداء لروحاني٬ يرفع عنها نسق المأدبة الفرنسية التقليدي٬ بما فيها من مأكولات أو مشروبات لا تتماشى ونهج الضيف٬ غير أن الفرنسيين بدورهم كانوا أول من زار طهران من أجل البحث عن فرص الاستثمار في الأسواق الإيرانية٬ ولجذب رؤوس الأموال الإيرانية الجديدة للداخل الفرنسي٬ لا سيما في مجال صناعة الطيران العسكري والمدني.
هل لألمانيا أن تقف بعيًدا في هذه السوق المفتوحة؟
ما كان ليحدث أبًدا٬ ولذا رأينا وزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير في طهران يوجه الدعوة لروحاني لزيارة ألمانيا في جولته القادمة لأوروبا٬ وألمانيا تحديًدا معروفة بعلاقاتها الوثيقة بإيران٬ أما إشكالية الديمقراطية٬ وأحاديث الحرية٬ وقضايا حقوق الإنسان في الداخل الإيراني فقد توارت عن ناظري وزير خارجية الدولة الأوروبية٬ المحرك الأول وقلب أوروبا النابض.
أفضل من شّخص حالة أوروبا في الأسابيع القليلة الماضية٬ كان الكاتب الأميركي روبرت كابلان عبر مقاله في صحيفة «وول ستريت جورنال» عندما أشار إلى أن «العقود التي كان يعتقد فيها أن أوروبا مستقرة قد ولت٬ وأن خريطة القارة أصبحت في العصور الوسطى من جديد».
يراهن قادة أوروبا على السعي حثيًثا وراء السياسات والتوجهات الأميركية٬ حتى لو كلف الأمر «تملق القادة الديكتارتوريين» حول العالم٬ وهو نهج أميركي معروف عبر العقود الماضية٬ غير أنهم ينسون أو يتناسون ما قاله اللورد بايرون ذات مرة «طالما أن المدرج الروماني قائم فإن روما ستبقى٬ وعندما يسقط ستسقط روما ويسقط معها العالم».
أي اختيار تريد أوروبا اليوم