على مدى 40 سنة من عمر الثورة في إيران، أثبتت التجربة أن النظام الإيراني يلجأ فقط تحت الضغط إلى إظهار حسن نواياه أو استعداده إلى تقديم التنازلات، خصوصاً عندما يتعرض لتهديد مباشر يزعزع استقراره أو يمس مصالحه. تاريخياً، لم يُعلن مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني قبوله بوقف الحرب مع العراق، وتنفيذ القرار الأممي رقم 598، الذي وصفه بتجرع كأس السم، إلا بعد تعرضه لخسارة عسكرية قاسية في الفاو وجزر مجنون، وتراجع قواته أمام التقدم العراقي. وفي السياق نفسه، فقد أدَّت العقوبات المالية القاسية التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى موافقة المرشد السيد علي خامنئي على تقديم تنازلات صعبة في الملف النووي، نتيجة الضغوط التي تعرض لها الاقتصاد الإيراني في تلك المرحلة، والتي كشف عنها الرئيس الإيراني الأسبق الراحل الشيخ رفسنجاني، عندما لمح في أكثر من تصريح إلى أن خزينة بلاده فارغة. ومن الواضح أن السلوك الدبلوماسي الإيراني منذ أيام تجاه واشنطن ودول الجوار العربي، الذي يحاول إظهار طهران بموقع الراغب في إجراء مفاوضات بناءة مع الأطراف المعنية بأمن واستقرار منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط كافة، لم يكن نتيجة تغير مفاجئ في قناعات طهران، بل هو على الأرجح نتيجة نجاح واشنطن في إلزام الدول التي تتعاون اقتصادياً مع إيران، خصوصاً في مجال الطاقة، بتطبيق المرحلة الثانية من العقوبات التي تمنع إيران من تصدير نفطها. كما أن قرار تطبيق تصفير صادرات إيران النفطية تزامن مع إرسال واشنطن تعزيزات عسكرية إلى منطقة الخليج، ساهمت في منع محاولات طهران الالتفاف على العقوبات من خلال تهريب نفطها عبر السوق السوداء، التي أصبحت تحت رقابة الأسطول العسكري الأميركي الذي بات جزءاً من آليات تطبيق العقوبات، وكأن واشنطن تخضع إيران بشكل أحادي تحت مظلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وتلوح بإمكانية القوة من أجل إلزام الجميع بتطبيق العقوبات النفطية.
عملياً، رغم التطمينات التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب من طوكيو، بأن إدارته لا تريد تغيير النظام في إيران، فإن قلق طهران يزداد بسبب جدية واشنطن في الحرب الاقتصادية على النظام، ما دفعها للبحث عن مخارج مؤقتة للأزمة، بانتظار نجاح مساعي الوسطاء في إقناع البيت الأبيض بالتخفيف من شروطه التي يطالب طهران بتطبيقها قبل البحث باتفاق نووي جديد. ففي إطار مساعيها لتجنب تجرع «برميل السم» الذي تعرضه واشنطن عليها هذه المرة، كثفت طهران في الآونة الأخيرة من مساعيها لفتح ثغرة في الجدار الخليجي، عبر تمرير رسائل إيجابية بعدة اتجاهات، لعلها تساعدها أولاً على التخفيف من حدة الضغوط الأميركية، ومن جهة ثانية في تجنب قرارات قاسية تصدر عن القمتين الخليجية والعربية المزمع عقدهما في مكة المكرمة آخر الشهر الحالي، سوف تزيد من عزلتها الخليجية والعربية. وفي هذا الإطار، بادر وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف إلى الإعلان عن رغبة بلاده في بناء علاقة متوازنة مع جميع الدول الخليجية، وأكد في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع نظيره العراقي محمد الحكيم في أثناء زيارته الأخيرة لبغداد أن بلاده «عرضت توقيع اتفاق عدم اعتداء مع جيرانها في منطقة الخليج».
الرد الخليجي على الاقتراح الإيراني جاء مباشرة من الكويت التي زارها نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، حيث نقلت صحيفة «النهار» الكويتية عن مصدر مسؤول في وزارة الخارجية الكويتية نفيه أن إيران قد تكون عرضت هذا الأمر على الكويت.
ومن جهتها، ردت جريدة «القبس» الكويتية في افتتاحية يوم الاثنين الماضي على ما تم تداوله من عرض إيراني يتطلع إلى علاقة حسن جوار مع دول الخليج العربي، حيث ذكرت طهران بما ارتكبته في الكويت والبحرين واليمن ولبنان وسوريا، واختتمت الافتتاحية بقولها: «نقولها بالفم الملآن: لسنا كالنعامة الدافنة رأسها في الرمال ولا ترى شيئاً، ولسنا بالسذاجة التي يعتقدها ظريف وعراقجي المحشوران حالياً في كيفية تبييض صفحة حكومتهما بعدما بلغ السيل الزبى واقتربت ساعة الحقيقة… حقيقة نوايا هذا النظام الذي وضعت ممارساته العدائية كل المنطقة فوق فوهة بركان… وأي بركان!».
تحت ضغط العقوبات، يسعى جواد ظريف إلى طمأنة المجتمع الدولي بأن مرشد الجمهورية الإيرانية قال سابقاً «إيران لا تريد امتلاك سلاح نووي»، فهل من الممكن أن يدفع تطور الأحداث الوزير ظريف إلى تحسين صورة نظامه، والقول إن القيادة الإيرانية لا تسعى للتدخل في شؤون جيرنها، أم أنه بعد القمتين لن تعود طهران قادرة على لدغ جيرانها من نفس الجحر مرتين؟!