لم يكن ينقص الرئيس دونالد ترامب سوى تذكير إيران بأن لدى الولايات المتحدة شيئاً اسمه السلاح النووي الذي لم تختبره سوى «قلّة عبر التاريخ». لم يأتِ على ذكر السلاح النووي، لكن الواضح أنّ ترامب كان يريد من إيران التعلّم من درس اليابان.
لم تستخدم أميركا السلاح النووي إلّا ضد اليابان في العام 1945 وذلك من أجل تأديبها وإجبارها على الاستسلام. هناك في هذه الأيّام أسلحة أخرى غير النووي يمكن أن توصل إلى النتيجة ذاتها. أصرّت الولايات المتحدة في الماضي على ضرب اليابان مرتين وليس مرّة واحدة. كان كافياً إلقاء قنبلة ذرية واحدة على هيروشيما كي تستسلم اليابان. لكن الجنرالات الأميركيين الذين لم ينسوا بيرل هاربور. أصروا على إلقاء قنبلة ثانية على ناغازاكي. كانت القنبلة التي استهدفت هيروشيما في السادس من آب (أغسطس) 1945 وتلك التي استهدفت ناغازاكي بعد ذلك بثلاثة أيّام.
تختزل القنبلتان الذريتان عقلية أميركية، هي تلك التي كانت سائدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في الريف الأميركي خصوصاً. يبدو أن دونالد ترامب أعاد الحياة إلى هذه العقلية. إنهّا عقلية راعي البقر الذي يُصرّ على توجيه اللكمات إلى خصمه حتّى بعد أن يبطحه أرضاً.
تعلّمت اليابان الدرس. استسلمت ثم ركزت جهودها على إعادة بناء المجتمع والاقتصاد وتحولت إلى دولة حديثة تخلت عن أحلامها الإمبراطورية.
يمكن أن تكون تهديدات ترامب من النوع الذي لا معنى له، كما يمكن أن تعني الكثير. ما يوحي بأنّه يمكن أن يعني الكثير أن التصعيد المتبادل بدأ بخطاب للرئيس الأميركي ألقاه قبل أقل من سنة، عرض فيه التاريخ الحديث للعلاقات الأميركية – الإيرانية. لم يتوقف ترامب عند عرضه لما تعرضت له الولايات المتحدة منذ انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979. تبعت الكلام الكبير للرئيس الأميركي خطوات عملية مثل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني.
يُفترض في إيران إعادة النظر في حساباتها، خصوصاً أن ليس في استطاعتها مقارنة نفسها باليابان التي تحدّت الولايات المتحدة في أواخر العام 1941 ودمرت جزءاً من أسطولها البحري في بيرل هاربور. كانت اليابان دولة قوية بالفعل وكانت لديها القدرة على لعب دور الإمبراطورية المهيمنة في محيطها. كانت اليابان في الصين وكوريا وكانت في مناطق أخرى في جنوب شرق آسيا. اضطرت أخيراً إلى معرفة حدودها والإنصراف إلى الداخل بعد الحسابات الخاطئة التي أقدمت عليها عندما انضمّت إلى ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. كان الخطأ الأكبر الذي ارتكبته اليابان في جعل أميركا تخرج من دور المتفرّج على ما تقوم به ألمانيا النازية في أوروبا. بعد بيرل هاربور، تغيّر كلّ شيء في العالم، بما في ذلك الموقف الأميركي من هتلر الذي كان يقضم أوروبا بهدوء، فيما بريطانيا وحدها تقاوم..
لعلّ أخطر ما في الكلام الجديد لترامب، أنّه يصدر عن إدارة أميركية تعرف تماماً، بالتفاصيل المملّة، الدور الذي لعبته إيران منذ العام 1979. لم يتردد الرئيس الأميركي في تعداد كلّ المآخذ الأميركية على إيران، بما في ذلك احتجاز الديبلوماسيين الأميركيين العاملين في سفارة طهران لمدة 444 يوماً. ذهب إلى أبعد من ذلك. تحدث عن دور إيران في تفجير السفارة الأميركية في بيروت في العاشر من نيسان (إبريل) 1983 وفي نسف مقر المارينز قرب مطار العاصمة اللبنانية في الثالث والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) من تلك السنة. كانت تلك أكبر ضربة عسكرية، من زاوية عدد الضحايا، توجه إلى الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. لم يترك ترامب تفصيلاً إلّا وأتى على ذكره في عرضه لما فعلته إيران منذ العام 1979، علماً أن الولايات المتحدة لم تكن في الأيّام الأخيرة من عهد شاه إيران في وارد دعمه. على العكس من ذلك، لم تتخذ موقفاً معادياً من الثورة الإيرانية ومن آية الله الخميني بالذات. لم تعترض على استقباله في فرنسا على سبيل المثال وليس الحصر. فوق ذلك كلّه، كان مسؤول وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الـ«سي. آي. إي» في الشرق الأوسط بوب أيمز أول من حذّر النظام الجديد في إيران من احتمال هجوم عراقي على إيران في ضوء خلافة صدام حسين لأحمد حسن البكر صيف العام 1979. هذا الكلام عن التحذير الأميركي لإيران، عبر أيمز، موجود في كتاب عنوانه «الجاسوس الطيّب» لكاي بيرد. يعرض الكتاب الدور الذي لعبه أيمز الذي فتح أول قناة اتصال بين منظمة التحرير الفلسطينية والإدارة الأميركية. قُتل الرجل في تفجير السفارة الأميركية في بيروت مع عدد كبير من العاملين في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كانوا مجتمعين به. قضت إيران بتفجيرها السفارة الأميركية على معظم المسؤولين عن محطات الـ«سي. آي. إي» في الشرق الأوسط دفعة واحدة. وهذا ما تعرفه واشنطن جيّداً.
تتعاطى إيران مع إدارة أميركية مختلفة كلّيا عن إدارة باراك أوباما التي راهنت على الاتفاق في شأن الملف النووي واعتبرته الإنجاز الأهم للرئيس الأسود الأول الذي يدخل البيت الأبيض. ما يعطي فكرة عن بداية استيعاب إيراني لكلام ترامب وأفعاله تلك التحذيرات التي صدرت عن الرئيس حسن روحاني. استعان بلغة صدّام حسين، لعلّ ذلك يوفّر له دعماً داخلياً. الأكيد أن روحاني يمتلك ما يكفي من الذكاء الذي يسمح له بمعرفة موازين القوى في العالم.
هل تمتلك إيران شجاعة اليابان. على الأصحّ هل تتعلّم إيران من تجربة اليابان وتعيد النظر في حساباتها؟ ليست إيران في نهاية المطاف سوى بلد يعمه الفساد. ليس لديه أي نموذج يقدّمه إلى العالم باستثناء الميليشيات المذهبية التي ساهمت في تخريب لبنان وسوريا والعراق واليمن وكادت أن تقضي على البحرين.
هناك خيار واحد أمام إيران. يتمثل هذا الخيار في أن تكون دولة طبيعية من بين دول العالم الثالث وأن تنصرف إلى الاهتمام بشؤونها الداخلية. في النهاية، يعيش نصف الشعب الإيراني تحت خط الفقر، فيما النظام في حال هروب مستمرّة إلى خارج حدوده.
قد تكون تهديدات دونالد ترامب جوفاء ولا ترجمة لها. لكن العقوبات الأميركية قادمة. هذا واقع لا يمكن تجاهله مثلما لا يمكن تجاهل أن ليس بالشعارات الطنانة والفارغة يجد نصف الشعب الإيراني ما يسد به جوعه.