IMLebanon

إيران والدرس اللبناني

 

خاصيتان يتميز بهما لبنان؛ الأولى إغراء لا يقاوم من قبل قوى خارجية للسيطرة عليه، وإضافته إلى رصيد النفوذ. والثانية؛ كل الذين راودهم الإغراء واستثمروا في لبنان عنوة وبالقوة، خرجوا منه إما هاربين أو مطرودين.

وهذه كلمة سر لبنان التي أقترح على الإيرانيين وعيها لعلهم يستفيدون من خلاصاتها.

أختصر الأمر بثلاث تجارب عاشها لبنان، وكان فيها الطرف الأضعف في معادلة القوى والإمكانات، وأبدأ بتجربة كنت فيها وشاهداً عليها من ألفها إلى يائها.

ولدت هذه التجربة في بيئة عربية وإقليمية ودولية مواتية، أسسها رجل أدار تحالفات معقدة محلية وإقليمية ودولية؛ هو ياسر عرفات، الذي سمي في فترة ما «رئيس جمهورية الفاكهاني».

تغلغلت الحركة الفلسطينية في جميع مكونات المجتمع اللبناني، حتى إن الذي تحدث باسم القضية الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة هو الرئيس سليمان فرنجية، ومُنح الفلسطينيون أرضاً ثمينة في جنوب لبنان باتفاقية رسمية مع السلطة الشرعية اللبنانية، وسُميت «فتح لاند».

في ذلك الوقت راود الفلسطينيين شعور بأن وجودهم في لبنان سيكون المحطة الأخيرة في الرحلة إلى الوطن، ونشأت بفعل ذلك حاجة فلسطينية لمضاعفة الرصيد، واستغلال ما كان يسمى «ممراً» وليس «مستقراً»، بوصفه أحد العوامل الفعّالة في قيام دولتهم على أرضهم.

توسعت «جمهورية الفاكهاني» لتشمل معظم الأراضي اللبنانية، وصعدت إلى أعالي الجبال، ووجدت قواتها في أماكن ينبغي ألا توجد فيها بفعل انعدام المبرر والمصداقية.

القصة طويلة وأذهب إلى خلاصتها… مرت سنوات صار فيها النفوذ مكلفاً إلى حد عدم القدرة على احتماله، فجاءت إسرائيل وأخرجت الفلسطينيين من عاصمة «جمهورية الفاكهاني»، وما إن مرت سنة حتى خرجوا من الأطراف كذلك.

وبتداخل مع التجربة الفلسطينية التي انتهت بالخروج النهائي، الذي غُلّف بأردية مجيدة عبر الوداع العرمرمي الذي وفره اللبنانيون لحلفائهم المطرودين، جاء الإسرائيليون بكل قوتهم العسكرية، ووصلوا إلى بيروت، والتقط شارون الصور أمام مقرات عرفات في «الفاكهاني»، وأغرى الإنجاز العسكري الحاسم حكومة إسرائيل بجعل لبنان مستوطنة موسعة يحكمونها، وفق اتفاق سلام يُملى على طريقة «المنتصر والمهزوم». ومن ينسى ذلك الحوار الذي نُشر بعد لقاء بيغن ببشير الجميل؟ بدا فيه بيغن كما لو أنه يطلب من ضابط في جيش الدفاع أداء مهمة عاجلة… الحكاية أيضاً طويلة، ولكن خلاصتها أن إسرائيل خرجت من لبنان، واحتفظت برقعة محدودة من أرضه لمجرد المساومة في أمر الحل النهائي.

وعلى امتداد الحقبة الفلسطينية وارتداداتها الإسرائيلية، تواصلت التجربة السورية، عبر وجود 30 ألف عسكري نظامي على أرض لبنان، مع ميليشيات متعددة تدور في فلك هذا الوجود، وتؤمن له نفوذاً استثنائياً حتى بدا لوهلة أن بيروت ليست أكثر من ضاحية من ضواحي دمشق.

أُخرج السوريون بعد العلمية الساذجة والغبية باغتيال رفيق الحريري. لم يستغرق الخروج إلا سويعات قليلة وبكلمتين أميركيتين لا ثالث لهما: «اخرجوا فوراً». بعد أن خرج السوريون من الباب العريض، دخلوا من النوافذ، كان خطؤهم أنهم لم يكتفوا بالنفوذ الموضوعي لسوريا في لبنان، وهو نفوذ لو أدير بمنطق غير المنطق المخابراتي التسلطي، لاستفاد منه السوري واللبناني، غير أن استنساخ سوريا في لبنان الذي راود صانع القرار السوري بدا كما لو أنه المستحيل بعينه.

على الإيرانيين ألا يعرفوا فقط كيف دخل غير اللبنانيين إلى لبنان، بل يتعين عليهم أن يعرفوا كيف خرجوا ولماذا… لو دققوا في الأمر جيداً وابتعدوا عن «محظور المؤقت» على أنه دائم، لما استثمروا في لبنان بأكثر من قدراتهم، ولتعرفوا على الكيمياء اللبنانية التي ترفض ولو بعد حين، كسر القالب والانحشار في قالب آخر، فالإغراء المؤقت والتغلغل من بين الفراغات لا ينتج نفوذاً راسخاً ولا سيطرة طويلة الأمد، بل يكون حاضنة لانفجارات إن أشعلت يدٌ ما فتيلها، فسيخسر لبنان كثيراً أو قليلاً ويحتفظ بوجوده… غير أن المستثمرين بالقوة سيخرجون.