إن طبقة المثقفين الإيرانيين فريدة من نوعها في التفكير من بين البلدان النامية، ذلك لأنه في حين تتطلب التنمية البحث عن أفضل الحلول، فإن كثيراً من المثقفين الإيرانيين مهووسون بالماضي القومي الأسطوري، ويلومون الآخرين على تخلف بلادهم. إنهم لا يحملون أنفسهم المسؤولية أبداً، بل يربطون كل المشاكل والأزمات بما فيها التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بنظرية المؤامرة، ويلقون باللائمة على الشعوب الأخرى التي احتلت إيران و«دمرت حضارتها» ومستمرون بالتفاخر بالماضي العتيد، ويبدو أنهم سعداء بذلك.
لقد حاول الشاه رضا بهلوي الذي لم يكن من سلالة ملكية، بل ابن جندي أمي أطاح بأسرة القاجار، واستطاع حشد مثقفين قوميين متطرفين وراءه لإضفاء الشرعية على تنصيبه ملكاً جديداً على إيران.
وفي عهد ابنه محمد رضا بهلوي الذي احتفل عام 1971 ببذخ هائل جداً، بمناسبة ما يسمى مرور 2500 عام على الملكية في إيران، وذلك بحضور 69 زعيماً من رؤساء وملوك وأمراء وحكام مختلف الدول في صحراء إقليم فارس، جنوب البلاد.
وأطلق على نفسه لقب «شاهنشاه» أي ملك الملوك، في حين كان نصف سكان البلاد أميين ويعيشون في فقر مدقع، فأنفق الكثير من الأموال على هذه الاحتفالات خلال تتويج نفسه وزوجته كملكة، زاعماً أنه حفيد الإخمينيين الذين حكموا بلاد فارس قبل 2500 عام في عهد الملك داريوش الأكبر، في سياق تاريخي تشوبه الكثير من المبالغة وعدم التوثيق التاريخي.
غير أن مثقفي نظام ولاية الفقيه لم يرتضوا بتاريخ 2500 عام، بل بدأوا يضيفون ويعدون حضارات ما بين النهرين من سومر وعيلام أي قبل 3000 إلى 4000 عام إلى بابل وغيرها من الحضارات الفارسية – الإيرانية ولذلك شاهدنا الرئيس الإيراني حسن روحاني يتفاخر بتاريخ 7000 عام لإيران أمام الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عندما أعلن موقفه إزاء إعادة فرض العقوبات.
وسار روحاني على خطى المثقفين القوميين الفرس متفاخرا بالتاريخ الأسطوري المزعوم، وكالعادة لم يتحمل وحكومته مسؤولية ما آلت إليه أزمات البلاد، ولم يقدموا حلولا للمشاكل والأزمات التي تواجهها الشعوب في إيران.
في الآونة الأخيرة صرح محلل إيراني مقرب من الحكومة، في مقابلة مع بي بي سي العربية، بأن تاريخ الحضارة الإيرانية يمتد إلى 8000 عام، دون تقديم أي أدلة علمية أو وثائق تاريخية على صحة هذا الادعاء.
لكن بالمقابل تؤكد الوثائق التاريخية المتوفرة أن إيران المعاصرة تأسست منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي، وتحديدا منذ عام 1503، وذلك على يد الشاه إسماعيل الصفوي. وفي الحقيقة قبل ذلك، لم تكن إيران آنذاك قائمة على قومية بعينها، وإنما كانت دوما بلدا متعدد الممالك والأقاليم والدويلات والإمارات، وتضم قوميات غير متجانسة ومستقلة عن بعضها وتعيش دون أي ارتباط عضوي.
والنظرية التي يروج لها القوميون الفرس حول نزوح الأقوام الآرية (الميديين والفرس الإشكانيين) إلى واحة إيران، لا تتوفر لحد الآن أي أدلة تثبتها، خاصة فيما يخص تاريخ هجرتهم أو المكان الذي هاجروا منه، كما لا يوجد في هذا الخصوص إجماع بين المؤرخين.
ولذلك تاريخ إيران الحديث يبدأ من الصفوية، حيث قام الشاه إسماعيل الصفوي بتوحيد القبائل التركية الآذرية وأكبرهم قبائل آق قويونلو (الخرفان البيض) وقرا قوونلو (الخرفان السود) وشكل منهم جيشا منظما بقيادة واحدة واتجه بهذا الجيش إلى مختلف الأقاليم وأخضعها لحكمه.
وهكذا بدأت تنشأ ما سميت آنذاك دولة إيران الحديثة التي كانت تضم عدة ممالك، ثم تبعت الصفوية سلالة الإفشار الأتراك، ومن ثم الزندية وهم من القومية اللورية حتى وصل الحكم إلى سلالة القاجار التي تمكنت في عام 1770 من توحيد القبائل التركية الآذرية، في مناطق أذربيجان لتبسط سلطتها بعد ذلك على عموم إيران.
لقد أسس القاجار نظاما جديدا عرف باسم «الممالك المحروسة الإيرانية» وهي عن عبارة نظام فيدرالي تقليدي حافظ على التعدد القومي والثقافي واللغوي والديني بشكل رسمي، واكتفوا بإرسال ممثل واحد، «والٍ»، لأخذ الضرائب فقط.
في العهد القاجاري أيضا انطلقت مبادئ الحركة الدستورية (ثورة المشروطة)، وجاء في مقدمة الدستور المقترح استقلال الأقاليم «الفيدرالية»، عبر تشكيل مجالس الأقاليم والولايات وفقاً للدستور الذي صاغته القوى الثورية الديمقراطية عام 1906.
عام 1917 بدأ الاستعمار البريطاني يخشى في أعقاب الثورة البلشفية، من عدوه الشيوعي اللينيني الروسي أن يتحرك عبر إيران جنوباً إلى المياه الدافئة في الخليج وربما إلى الهند.
ولم يعد البريطانيون يثقون بملوك القاجار الضعفاء لوقف المد الشيوعي، وبدأوا يبحثون عن قوّة توقف ذلك حتى بدأوا بتجهيز رضا بهلوي بمساعدة قادة التيار القومي المتطرف، وعلى رأسهم الزرادشتيين الفرس الأنغلو فيليين مثل أردشير جي ريبورتر، وسيد ضياء الدين الطباطبائي، ومثقفين عنصريين آخرين.
ثم دعموا رضا بهلوي حتى أسقط القاجار بانقلاب عسكري ونصبوه ملكا، ثم قام الشاه رضا بهلوي بالهجوم العسكري على الأقاليم والكيانات شبه المستقلة، وبدأ في ترويج القومية الآرية وأسس نظاما عنصريا قوامه القومية الفارسية التي تعتبر المسيطرة حتى يومنا هذا.
لم يكن رضا شاه قائداً لحزب منظم أو حتى لجماعة تحمل عقيدة معينة وما كان يطرحه من أفكار لم يكن يتماشى مع أصحاب النظريات الذين يساندون التحولات الاجتماعية المناسبة لواقع التنوع القومي في إيران. وبدلا من التنمية الحقيقية سعى رضا شاه إلى القضاء على هذه القوميات وتوحيد إيران بأي ثمن، وبكل ما يستطيع من قوة وبالسرعة الممكنة.
ولذلك التقت أهدافه مع أهداف القوميين الفرس، وكانوا على قناعة تامة بأنه لا يمكن تحديث إيران والعودة إلى تاريخها القديم وتحقيق سيادتها والقضاء على الفوضى السائدة فيها، إلا من خلال مركزية الدولة وتقويتها على حساب الأطراف، وقد وجدوا في رضا خان قائداً قادراً على إيصال الإيرانيين إلى أهدافهم في تحسين أوضاع الجماهير، من الناحيتين المادية والمعنوية، واعتبروا إيجاد حكومة مركزية أمراً ضرورياً وفي غاية الأهمية من أجل التنمية وتحقيق أي إصلاحات في البلاد.
لكن مع هذا لا يستطيع أحد أن ينكر أن ثروات إيران ومواردها وخيراتها لم تصل إلا للطبقة الحاكمة آنذاك، الأمر الذي أدى إلى انتشار التمييز والفقر وعدم التنمية وتخلف البلاد، مقارنة بجيرانها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
وقادة النظام الإيراني بدءاً من الخميني معادون للعرب إلى درجة كبيرة، وكذلك خامنئي ورفسنجاني وأحمدي نجاد وخاتمي وروحاني في الوقت الحاضر، لم يخفوا معاداتهم للعرب وتغنيهم بأمجاد القومية الفارسية.
ورغم أن الفرس أنفسهم يعتبرون أحد الشعوب في إيران ولا يشكلون الأكثرية، بل إنهم أقلية مقابل الشعوب غير الفارسية التي تشكل أكثر من ثلثي السكان، ويصرون على مركزية الدولة بمحورية القومية الفارسية إلى الحد الذي جعل أبا القوميين الحاليين، الذي توفي قبل بضع سنوات، داريوش همايون، من الوزراء السابقين في عهد الشاه، أن يعلنوا اصطفافهم مع نظام ولاية الفقيه ضد مطالب الشعوب غير الفارسية.
وردا على نضال الشعوب غير الفارسية الذين يريدون حصة متساوية من السلطة السياسية، ولا يقبلون الهيمنة الفارسية، أعلنوا بأنهم سيواجهون أي نظام حكم فيدرالي لا مركزي أو حتى حكم ذاتي، وأنهم سيقفون مع نظام الجمهورية الإسلامية المتعطش لدمائهم، وسيكونون جنوداً للنظام الحالي لمواجهة القوميات التي تريد تفكيك إيران، حسب زعمهم.
وللأسف الشديد، بدأ هذا الخطاب المتطرف يكتسب المزيد من الزخم في ظل الانهيار المحتمل للنظام، حتى إن الليبراليين واليسار الإيراني اتخذوا موقفا مماثلا واعتبروا اللامركزية بمثابة إضعاف الهيمنة الفارسية، وبالتالي خطراً على سلامة أراضي إيران بحسب رؤيتهم.
من ناحية أخرى، تسعى الشعوب غير الفارسية المهمشة إلى الحصول على الحد الأدنى من حقوقها من خلال تأسيس نظام فيدرالي، ولا تقبل بالحكم الذاتي حيث ترى أنه يمكن سلبه بسهولة منها.
ويأتي إصرار القوى السياسية التابعة للقوميات على الفيدرالية للحصول على ضمان دستوري، لإنهاء استبداد الحكومة المركزية ومنح الأقاليم سلطة إدارة أمورها بيد شعوبها.
وتتحدى هذه القوى الجماعات القومية المتطرفة بطرح علمي عقلاني ممكن أن يجنب البلاد الحروب والصراعات والفوضى من خلال الفيدرالية، بينما تطرح قوى أخرى الحصول على استقلال كامل للأقاليم، رغم معرفتهم بأن هذا حلم غير قابل للتحقيق في الوقت الحاضر.
لذا فإن المعضلة التي تواجه القوميين الفرس هي تقديس أسطورة الدولة القومية وليس لديهم أفق لتحقيق الديمقراطية والتنمية وإعادة إعمار البلاد ومنح الشعوب حقوقها، بل إن معاييرهم تعتمد على هيمنة الأرستقراطية الفارسية التقليدية سواء كانت ملكية بقيادة الشاه، أو قومية بقيادة شخصية مثل محمد مصدق أو ولاية فقيه مثل الحكم الحالي.