في آخر «مسيرة قوة» نظمتها طهران احتفالاً بما قالت أنها حققته ضد ما تسميه «الشيطان الأكبر»، وكان تبادل السجناء بينها وبين واشنطن عقب استيلاء بحريتها على زورق أميركي في مياه الخليج واعتقال طاقمه ثم الإفراج عنه، كشف سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني أحد مفاصل السياسة الخارجية لما يسمى دولة «الحرب التي لا هوادة فيها ضد الاستكبار العالمي». قال شمخاني: «في أثناء المحادثات لتبادل السجناء، وجّه الجمهوريون المعارضون للإدارة الأميركية الحالية، وهؤلاء يدّعون الدفاع عن حقوق الإنسان، رسالة يطلبون فيها منا عدم إطلاق سجناء بلادهم الآن، وتأجيل ذلك إلى ما بعد الانتخابات الأميركية (المقررة في الخريف المقبل)، لكننا عملنا بما يتفق مع إرادتنا المستقلة».
لكن لماذا «إرادتنا المستقلة» هذه، وهذه المرة بالذات؟ لم يسأل أحد ممن شاركوا في المسيرة، ولا طبعاً شمخاني، نفسه، لأن الإجابة عن هذا السؤال معروفة لديهم، وهي كرمى لعيون الرئيس الأميركي باراك أوباما وللحزب الديموقراطي الذي ينتمي اليه. ولأي سبب؟ لأن أوباما تجاوب مع رغبة «الولي الفقيه» عقد الاتفاق الذي حلم به في شأن ملف بلاده النووي ورفع العقوبات السياسية والاقتصادية التي هددت نظامه في المرحلة الأخيرة منها.
وليس في الأمر جديد بالنسبة إلى إيران.
ذلك أن هذه الدولة، عقب قيام الثورة فيها العام 1979 واحتلال السفارة الأميركية واحتجاز العاملين فيها لمدة 300 يوم، كانت قد لبت طلباً مماثلاً من الحزب الجمهوري إياه، فلم تخل السفارة وتطلق موظفيها إلا بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية يومها بفوز مرشح الحزب رونالد ريغان على مرشح الحزب الديموقراطي جيمي كارتر.
بل أكثر، تواترت أنباء في ذلك الحين عن تنسيق أمني بين الحزب الأميركي و «الثورة» في إيران، أدى الى إفشال عملية قامت بها المخابرات الأميركية، عبر إنزال في صحراء طبس الايرانية، لاقتحام مبنى السفارة وإنقاذ المعتقلين فيها.
والقضية هنا ليست أن يلجأ حزب أميركي الى استخدام كل ما لديه من أساليب وأدوات للفوز بالرئاسة في بلاده، كما هي حال الحزب الجمهوري، بل أن تتبرع دولة تدعي أنها ثورية من جهة، وتقاتل الاستكبار العالمي من جهة ثانية، بأن تكون أداة في خدمة هذا الحزب… أو حتى في مجرد التنافس بين حزبين لا يختلف أحدهما عن الآخر بمعايير تلك الدولة للاستكبار.
على الهامش: إذا كانت انتخابات 1979 الأميركية بين رونالد ريغان وجيمي كارتر، وكانت إيران فيها مجرد أداة رخيصة (هل يكفي هذا الوصف؟) في يد الحزب الجمهوري ضد الحزب الديموقراطي، فماذا يقول لنا شمخاني إذا ما كان الطلب جاء هذه المرة من دونالد ترامب (بموقفه من المسلمين ورفض وجودهم في الولايات المتحدة) أو من جيب بوش (شقيق جورج دبليو) قبل قراره سحب ترشيحه، أو من أحد آخر من زملائهما المرشحين عن الحزب.
في أي حال، لم يغب الرئيس حسن روحاني (المعتدل، كما يوصف) عن تلك المسيرات، فشبهها بما قال أنها «اللحظات الأولى لانتصار الثورة»، مشيراً إلى أن «الشعب ما زال متمسكاً بأهدافه»، وأنه بعد أربعة عقود على انتصار الثورة «شعرت الدول المتغطرسة أن الشعب الإيراني العظيم لن يخضع لأي ضغط أو تهديد، وأن نصرنا النووي أظهر للعالم أن الإيرانيين قادرون على الفوز في أي معركة، بما في ذلك الديبلوماسية».
هل هذا فقط؟
الواقع أن إيران، التي ادعت أنها «ثورة المستضعفين في العالم»، وأنها «حرب دائمة على الاستكبار»، ثم شربت السم بلسان الخميني بعد هزيمتها في العراق، لجأت منذ قيامها الى «سياسة» لا تختلف كثيراً عما سبق: خطف الغربيين وأخذهم رهائن كما فعلت في لبنان في الثمانينات، وتبادلت الأدوار في ذلك مع نظام حافظ الأسد في سورية، بحيث كان الأخير يفاوض دول هؤلاء الرهائن على «الأثمان» السياسية والمعنوية والمادية للإفراج عنهم.
وحتى في ملف إيران النووي والمفاوضات مع الدول الـ6 الكبرى، كما في تسللها المذهبي الى بلدان المنطقة تحت عناوين مثل الحقوق الفلسطينية وعدوانية إسرائيل والغرب عموماً، فإنها لم تعتمد سوى «السياسة» إياها من دون تبديل أو تغيير… سياسة اللعب على الخلافات، والظهور بما يتناقض مع حقيقة الموقف على طول الخط.
وهكذا، فهي في بلدان المنطقة كلها ضد الفتنة المذهبية، بينما لا تفعل في الواقع إلا ضرب النسيج الاجتماعي لشعوب هذه البلدان واحداً بعد آخر. وهي، في سورية والعراق واليمن تحديداً، مع شعوب هذه البلدان وتحقيق آمالها والمحافظة على وحدة أراضيها، بينما تقاتل بجيوشها وميليشياتها هذه الشعوب، وتدخلها في حروب أهلية… جنباً الى جنب مع «الاستكبار» الأميركي (العراق) أو في مواجهته (سورية واليمن)، ومع روسيا وإسرائيل في وقت واحد هنا وهناك.
وهي، في لبنان بالذات، مع استقراره ووحدته الوطنية وانتخاب رئيس له «من دون تدخل من جانبها»، كما تقول، بينما تأخذ البلد كله رهينة أطماعها وطموحاتها في أن تكون «قوة عظمى» في الإقليم ولو على حساب تفكيك هذا البلد وحتى إلغائه من الوجود.
هل هذا غير ما كان يوصف قديماً بـ «سياسة اللعب على الحبال»، وكيف يتأتى لسياسة بهذه الصفة أن تنجح أو تستمر طويلاً؟